البيروقراطية والخطاب الشعبوي المضاد

عاطفة المسكرية

يتحدَّث الزواوي بغورة، وهو باحث وأكاديمي جزائري وأستاذ في الفلسفة المُعاصرة بقسم الفلسفة في جامعة الكويت، عن "خطاب الشعبوية في الفكر السياسي المعاصر" في إحدى مقالاته المنشورة بمجلة التفاهم. يفتتح مقالته بطرح كيف أن المفاهيم السياسية فضفاضة ما يُفسر صراع التأويلات في الجانب السياسي بشكل عام. ويُعد هذا الأمر حقيقة أكثر منه رأياً لأنه ليس كباقي المجالات العلمية التي دائماً ما يكون 1+1 فيها يساوي 2.

إنَّ التغيير هو الثابت الوحيد في هذا المجال، حيث لا أصدقاء ولا أعداء دائمين، تتغير مواقع الكيانات السياسية وتتأرجح وفقاً للمصالح بأنواعها السياسية، والاقتصادية وما إلى ذلك. ومن ثمَّ ينتقل إلى الحديث عن الأنظمة الحكومية والخطابات السياسية التي تُعد من ضمن الأدوات المستخدمة من قبل هذه الكيانات. يتعمق الباحث في طرح منهج الخطاب الشعبوي. يعد هذا النهج مستخدماً من قبل أولئك الذين يرغبون في الانفصال عن النظام المؤسسي البيروقراطي ويفضلون الاتجاه إلى الشعب بشكل مُباشر من باب تجاهل النخب الحاكمة التي يعتقد أنها سبب لعرقلة الديموقراطية. وفي سياق ذكرنا للديموقراطية هنا لابد من ذكر أن الخطاب الشعبوي لا يعكس نهجاً ديموقراطيا في حقيقة الأمر لعدة أسباب. أولاً يشار إلى هذه الخطابات على أنها من أدوات التعبير عن الفئات المُهمشة في المجتمعات، لذلك تلقى دعماً كبيراً من هذه الفئة. ولكن لابد من ذكر مسألة التطرف التي غالباً ما تنتهي بها هذه الخطابات التي ومن شدة تركيزها على المعضلات التي تمر بها الفئات المُهمشة تبدأ بتجاهل كل الأفكار التي تحمل شيئاً ينافي أفكارهم المطروحة.

كما أن بعضا منها يتوجه نحو رفض كل ما هو متعلق بالنخب الحاكمة بحجة كونها تختار فئة دون أخرى سعياً لمصالحها. ومن هنا يتَّضح الكيفية التي ينتهي بها هذا الخطاب إلى التناقض في حالة غياب عنصر الاتزان في الخطاب الشعبوي. إن رغبتك في التركيز على فئة دون أخرى بحجة أنَّها لاقت ما يكفي من استجابة لمطالبها يعني تجاهل هذه الفئات في حالة الوصول إلى القمة، سوف يُؤدي ذلك إلى تكرار نفس الأحداث مع الفئات هذه لأنها ستصبح مُهمشة فيما بعد. إن أي أداة/ فكر/ نهج أو أيدولوجية تتجاهل الآخر تقوم بشكل ما بخلق مشكلة ستطفو على السطح عاجلاً أم آجلاً، بالإضافة إلى أنها ستخرج بعواقب مُقاربة للعواقب التي تسببت بها العنصرية أو التطرف. إنَّ الخطاب الشعبوي قبل أن يكون أداة مستخدمة من قبل الأنظمة السياسية هو أكثر منه أسلوب للتعبئة والاحتجاج علــى المُعانــاة الاجتماعية. بجانب ذلك يعتبر أداة مناهضة للتعددات حيث ينادي بـ(نحن، نحن فقط من نمثل الشعب).

إن الشعبويين يبررون أهمية وجودهم بسبب أن الديموقراطيات التمثيلية فقدت صلتها بالشعب وهذا ما أشار إليه الدارسون للشعبوية وتحديدا الشعبوية الأوروبية اليمينية واليسارية كذلك. وبرغم ذلك لابد أن ينظر في موضوع الديموقراطيات والنخب تحديدًا وذلك بسبب وجود أرضية مشتركة وعناصر تتماشى مع الفكرة الأساسية لهذه الأنظمة أو التوجهات، فعندما تقرأ في الخطاب الشعبوي للوهلة الأولى تعتقد أنه أكثر الأنظمة ديموقراطية إلى أن تتعمق وتجد أنه متطرف في العمق، ولكن مع ذلك لا زال بالإمكان العمل في أرضية مشتركة متى ما اقترب الديموقراطيون إلى تغطية فئات أكبر ومتى ما كفت الخطابات الشعبوية في رسالتها من رفض الآخر.

تذكرنا مقالة الغورة والجدل القائم حول الخطاب الشعبوي الذي ينطلق من فكرة ديموقراطية ومن ثمَّ ينحرف عنها بسبب التطرف بالجدل القائم في أمريكا الديموقراطية وتحديدًا فيما يتعلق بنظام الانتخابات لديهم والجدل المستحدث منذ 2016 بعد خسارة المرشحة هيلاري كلينتون للانتخابات. إن نتائج الانتخابات الأمريكية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمجمع الانتخابي الذي يتمحور حول فكرة النقاط التمثيلية لكل ولاية؛ حيث تذهب أصوات الولاية ككل إلى مرشح ما إذا أصبحت الغالبية في تلك الولاية تُؤيد ترأسه للفترة القادمة. وتختلف أعداد النقاط الممنوحة لكل ولاية بناءً على عدد السكان في تلك الولاية. للوهلة الأولى يبدو النظام منصفاً من ناحية أن النتيجة لن تختلف تقريباً ما إذا كان النظام عبارة عن تصويت فردي مُباشر أم كونه يعتمد على نقاط المجمع الانتخابي. في 2016 فازت المرشحة هيلاري كلينتون بعدد أكبر من الأصوات الفردية في واقع الأمر عدا أنَّ المترشح الأمريكي دونالد ترامب الذي أصبح رئيساً فيما بعد حصد نقاطا أكثر في المُجمع الانتخابي، فبدأت بعض الأصوات تنادي بإلغاء نظام المجمع الانتخابي واللجوء للتصويت الفردي المُباشر من باب أنه أكثر واقعية وديموقراطية، على الرغم من أنَّ النتيجة لن تختلف كثيراً فيما يتعلق باختيار الرئيس الأمريكي القادم. ولكن ما سيختلف في حقيقة الأمر هو مدى تركيز المرشحين على ولايات دون أخرى خاصة تلك التي تمتاز بأعداد كبيرة من السكان مقارنة بالولايات الأخرى. لذا يصب النظامان في نفس القالب لكن ترى فئة أن الاعتماد على التصويت الفردي المباشر أكثر إنصافاً من الاعتماد على المجمع الانتخابي الذي يعد غير كافٍ في الحديث عن الديموقراطية ! كذلك بالنسبة للخطاب الشعبوي الذي ابتدأ في سياق الاستبدال بالديموقراطيات التمثيلية نظاماً يعكس المطالب الشعبية بشكل أوضح. إن كافة الأنظمة بشكل عام لها إيجابياتها وسلبياتها والأمر نسبي مرتبط بمعطيات الواقع. بعض الأنظمة مجدية إلى حد كبير طالما أنها بعيدة عن التطرف والبعض الآخر وجد لغرض خدمة مصالح فئات محدودة. تبقى كل الأدوات السياسية المستخدمة، المناهج والأيدولوجيات رهناً للتغيرات التدريجية التي تحدث. وقد تصب هذه التغييرات في جانب الهدف الذي ابتدأ منه أو تؤدي إلى حصول تغييرات ينتج عنها في بعض الأحيان خلق أنظمة ومناهج جديدة.

 

أخبار ذات صلة