عاطفة المسكري
يُناقش الدكتور محمد أحمد القنديل -وهو مدرس بقسم الدراسات الإسلامية في كلية الآداب بجامعة أسيوط- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مقال له بعنوان "مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصلاح والإصلاح"، منشور بمجلة "التفاهم".. طرح المقال في سياق أوسع: سياقات فطرية وإنسانية، تحديدا ما يعكس رحابة وسعة ما جاء في الدين أصلا ليتناسب مع مُتطلبات وتوجهات العصر.
القنديل يفتتح مقاله بتفسير مصطلحيْ المعروف والمنكر لغويًّا، اللذين يُختصران في مفهومي الإصلاح والفساد، وينتقل بعدها إلى صلب الموضوع ليطرح فكرة مدنية الإنسان أو فطرة "الإنسان مدني بطبعه"، بعيدا عن الأمور المرتبطة بالديانة المشتركة والخلفية التاريخية أو اللغوية أو العقائدية. حتى وإن غابت كل عناصر الهُوية المشتركة بين المجموعات البشرية، يبقى كونهم "بشرا" كفيلا بخلق أسس عامة ومشتركة فيما بينهم. فإنْ تحدثنا بما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق ديني، فسيتمحور ذلك حول الأمور العامة المتعلقة بالظلم والرشوة وشهادة الزور وأكل أموال اليتامى واللعب بالقمار والخيانة والشائعات الكاذبة أو الجهر بالسوء أو تدبير المكائد والدسائس أو التآمر على الناس والغش والاحتكار فيما يتعلق بالمنكر. يقابله العفو عمَّن ظلم، وصلة الرحم، وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء، وإقامة دور العلم والسعي لنشره، ونُصرة المتخاصمين، والعدل في القضاء، والإصلاح بين الخصوم والتبرع لأعمال الخير، والدعوة للشورى في الحكم، والخضوع لرأي الأمة وتنفيذ إرادتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، وتولية الأمناء الأكفاء، وتحكيم شرع االله في الجانب المتعلق بالمعروف.
قد ترتبط بعض هذه الأوامر والنواهي بدين الإسلام عدا أنَّ غالبية ما ذُكِر يغطي الجانب الإنساني العام كذلك. فأغلب الفرائض والعبادات يُمارسها المسلم بطابع ديني والفيصل في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه أينما ذكر يغلب عليه الطابع الإنساني بغض النظر عن بعض الجوانب القليلة الواردة بطبيعة الحال. ويُؤكد القنديل ذلك في تصنيفاته التي قام بطرحها في المقال المذكور آنفا، نبتدئ بالجانب العقائدي حيث الإيمان باالله وتوحيده والنبوة واليوم الآخر، ويقع كل ذلك في دائرة المعروف، ويقابل ذلك الكفر كمنكر. ومن ثم عباديًّا: أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، وتلاوة القرآن، وإحياء الشعائر، كلها تدخل في سياق المعروف. يقابلها ترك الصلاة وترك إخراج الزكاة وتسويف الحج والإفطار بلا عذر في سياق المنكر.
أما في سياقات الحياة العامة والجانب الإنساني، فنجد حتى الجوانب الاقتصادية الإدارية والسياسية حاضرة. اقتصادياً كجزء من المعروف يعدُّ الاعتدال في الإنفاق و الإيثار واجبا، وكجزء من المنكر يحدث الإسراف، والتقتير، الحرص والاستئثار. أما إداريًّا فيبرز المعروف في جوانب اغتنام الوقت وعدم تضييعه، أداء الأعمال في أوقاتها، تيسير أمور أصحاب الحوائج، رفض قبول الرشاوى. بينما يعد هدر الوقت، وتسويف العمل، وتعسير أمور المراجعين، وأخذ الرشاوى من المنكرات. وأخيرا في الجانب السياسي حفظ المنجزات الشعبية، وأداء التكاليف السياسية من انتخابات أو ترشح أو حضور في ساحات العمل العام، والصبر واحترام القرارات الصادرة عن القيادة كلها تدخل في سياق المعروف.
وهنا.. نجد دعمًا صريحًا لشمولية الدين وحضوره في كافة مناحي الحياة، والذي بطبيعة الحال أتى ميسرا بغض النظر عن التفسيرات المعسرة من قبل بعض "مشايخ الدين"، فالدين أسلوب حياة وكل ما يفعله بنو البشر من خير أو بنيَّة خير أيضا حتى ولو لم يكن ذلك من ضمن العبادات أو الشعائر كمفهوم أوضح يُؤجرون عليه. يقودنا ذلك في بعض الأحيان إلى التأمل العميق حول حقيقة اليسر والحب الكثير الذي يحمله الدين، وتحديدا إذا ما جِئنا نستشعر الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها الإنسان. بعيدا عن التعقيدات التي جيء بها ورُبِطت بالدين. إنَّ تعاليم الدين في أصلها تتماشى مع الفطرة الإنسانية وكردة فعل لذلك يفترض أن تكون عملية قبولها واستيعابها سهلة بالنسبة لشخص لم تشب فطرته شائبة، ولكن بطبيعة الحال ومع كل هذه البرمجات التي استحدثها الإنسان وكل هذه التراكمات والمعتقدات، حدث أنْ أصبح هذا الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو عليه.
وجاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الحث على الفضيلة من باب أنَّ الأرض يصعب تعميرها فُرادى. ولو تبنَّى كل فرد منطق "نفسي نفسي"، ونأى بنفسه عن الجماعة بفضائلهم ومساوئهم لعمَّت الفوضى. تجمعنا نحن البشر في نهاية الأمر مصالح دنيوية مشتركة؛ فالفساد إذا تفشى يلحق الأذى بالبعيد والقريب معا، وينطبق هذا الأمر على الخير كذلك. ومن هنا، تأتي مسؤولية الحث على الفضيلة دائما بـ"الأمر بالمعروف". وحتى في أكثر المجتمعات التي تروج لفكرة الانتصار للفردانية والاحتفاء بعيدا عن سيطرة المجموعات، نجد هذا الأمر حاضرا وبقوة. فالاحتفاء بالحرية يقف مباشرة عندما تتضارب عناصر الحرية مع المصلحة الجمعية، وأبسط مثال على ذلك: التدخين. إذا ما جئنا نضعه كسلوك فردي تحت مجهر "الدين" نجده من السلوكيات غير المحببة من باب أنَّ الإنسان مُطَالب بالامتناع عن كل ما يُمكن أن يمسه بسوء أو أذى. ومن ناحية أخرى، إذا ما جِئنا نقيِّم هذا السلوك في المجموعات أو الدول التي تعتد بالحرية والفردانية، سنجد ذلك مرفوضا كذلك؛ حيث إنَّ الكثير من الدول تمنع التدخين في الأماكن العامة!! وذلك يدخل في سياقات النهي، ويعد تدخلا في سلوك فردي إذا ما جئنا نتمعن في حقيقة الأمر. ومن هذا المنطلق، متى ما تضاربت المصلحة الجمعية مع المصلحة الفردية، نجد الحث على الفضيلة حاضرا أيًّا ما كانت أشكاله، حثا فرديا من قبل الأفراد أو أوامر وتشريعات من قبل المنظومة والمؤسسات. ومن هنا، نستشف أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجانب كونه واجبا دينيا يعد مسؤولية اجتماعية وإنسانية كذلك.
