كيف يرى فيشت الحق الطبيعي؟

فاطمة بنت ناصر

 لقد لعبت الفلسفة الألمانية دوراً كبيراً في تشكيل الدولة بعد الثورة الفرنسية خاصة تلك الفلسفة المتعلقة بالحق الطبيعي وعلاقته بالحرية ومفهوم الأخلاق. فيمكننا بذلك اعتبار أن فرنسا ما بعد الثورة كانت الساحة التجريبية والعملية لتطبيق ما نَظّر له فلاسفة أوروبا حول حق الأفراد وتنظيم العلاقة بين الدولة ورعاياها وكيفية حفظ وصون الحرية وجعلها من أسس قيام الدولة. وهنا سنستعرض ما قاله الفيلسوف الألماني فيشت حول الحق الطبيعي كونه أحد الذين شكلوا فلسفة الثورة الفرنسية.

المقال الذي سنحاول تلخصيه وتبسيطه للقارئ هنا هو مقال كتبه أستاذ الفلسفة محمد تحزيمة من المغرب ونشر في مجلة التفاهم بعنوان: (فيشت: أساس الحق الطبيعي). وقبل أن أتناول الحق الطبيعي من وجهة نظر هذا المفكر، علينا أن نعرف من هو ومن أين كانت نقطة بدايته؟.

فيشت أو فيخته هو فيلسوف ألماني ولد عام 1762 درس اللاهوت وعلم الأديان وفقه اللغة، ولكنه رفض أن يقوم بتدريس اللاهوت بسبب شغفه بفلسفة كانط التي زادها لقاؤه به. قام فيشت بتدريس فلسفة كانط والتعمق فيها.[1] بل إنّ ما قام فيشت بتأليفه يعد إضافات إلى الأساس الأول الذي وضعه كانط. فبعد أن قام كانط بوضع فلسفتها النظرية أتى فيشت ليفسرها بوضوح أكبر مضيفاً لها ما يجعلها أكثر حداثة وتواؤماً مع الواقع.

مصطلحات النص مفاتيح لفهمه؟

الحق الطبيعي هو محور هذا النص والذي لابد من استعراض مفهومه للقارئ قبل الشروع في الحديث عن قضاياه وإشكالاته. يرى كانط وفيشت ومن يتبعهم: "أنّ الحقوق الشخصية، وأهمها حق الحياة والحرية والمساواة، حقوق طبيعية كامنة في طبيعية الإنسان، ولا يجوز للإنسان التنازل عنها، كما لا يحق لأي سلطة كانت اغتصابها أو انتزاعها منه"[2]. أما اللبس الذي اجتهد فيشت لتوضيحه هو الخلط القائم بين مفهوم الحق الطبيعي وعلم الأخلاق على الرغم من أنّ الحق الطبيعي في الواقع لا يتحقق سوى بالقوانين التي يصوغها البشر وعندها لن يكون حقاً طبيعياً. فهو في هذه الحالة شيء مؤسس وليس طبيعيا. وحين يكون الحق الطبيعي مؤسساً بصياغة بشرية للقوانين التي تقره وتحفظه، فإنه بذلك لا علاقة له بعلم الأخلاق. ومن هذا المنطلق لا يعترف فيشت بوجود ما يسمى بالحق الطبيعي لأنه غير قابل للتحقق في الواقع دون وجود تدخل بشري يقوم على صياغة القوانين المحددة له، وبالتالي تكون العلاقة بين البشر قانونية ووضعية وليست طبيعية وتلقائية. ويقول فيشت إنّ الحالة الطبيعية تجسدها الدولة التي تصون حقوق الأفراد الطبيعية وتحفظها لهم.

 

بين الثورة النظرية الألمانية والثورة السياسية الفرنسية

بقيام الثورة الفرنسية القائمة على فكرة الحرية وما نشأ عن ذلك من سجالات فكرية حول مفاهيم الحق والحرية. كان لفيشت النقد الأكثر جرأة بين كل الآراء حينها. فقد قام فيشت بوضع الحرية كمبدأ لكل شيء كونها نابعة بشكل عفوي من الأنا. وعليه فإنّ فكرة الحرية الألمانية لا تفصل نفسها عن المؤسسة الفرنسية التي جعلت من الحرية أساسا للدولة. فالحق والحرية لايمكن فصلهما. وما الثورة إلا ارتقاء للحق بقدر ما تمثله من ارتقاء للحرية كما هو معلن في إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789. فبمقدار ما يسمح به من حرية فهو كذلك يسمح بالمساواة ويؤمن بها.

 

النمط القانوني وفلسفة الحق

من منطلق قول فيشت: "الحرية هي أول أساس والشرط الأول لكل وعي". نجد أنّ الحرية هي التي تجعل الإنسان ذاتاَ للحق وذاتاً للحقوق. فكون الحرية هي الحق الأول المؤسس لوجود الإنسان فهي التي تجعل كل الحقوق الأخرى حقوقاً. ومن هنا تم تحرير مفهوم الحق من العقل الذي أدى ربطه به للبس القائم بينه وبين العقل الأخلاقي لوقت طويل.

 

أولوية العملي على النظري كمنهج مؤسس للحق الطبيعي       

يرى فيشت أنّ مفهوم مذهب العلم أو ما يسمى بالفلسفة مقسم إلى جزئين: نظري وعملي، وتقع الأنا في الجزء النظري وهي بمثابة العقل للجسم. ويرى فيشت أنّ الجزء العملي يتقدم الجزء النظري وليس العكس. فالعقل لا يمكنه أن يكون نظرياً دون أن يتحقق عملياً في البداية. فإذا أخذنا الإحساس مثلا فهو لا يظهر بداخل الأنا سوى نتيجة لتناقض معين أوجد جهداً فبدون هذا الجهد (الذي يمثله الأنا العملي) لن يتمكن (الأنا النظري) من تحديد ردة فعل وإجابة للفعل العملي والجهد الذي حصل.

 

 عالم الطبيعة وعالم الحرية وإشكالية الحق

فكما أسلفنا أنّ تقسيم فيشت لمذهب الفلسفة إلى جزء نظري وآخر عملي يقابله في العالم: العالم الطبيعي (القائم والمعروف) وعالم الحرية (أي العالم الذي يجب أن يكون). وتكمن إشكالية الحق من كونه مرتبطا بهما معا. ويرى فيشت أنّ الحق لا يمكنه أن يتحقق إلا بإيجاد العالم القانوني الذي بدوره لا توجده الطبيعة ولكن البشر هم من يشكلونه على ضوء ما يجب للعالم أن يكون، وهنا نجد الحق مرتبطا بالجانب العملي التطبيقي. ومن جانب آخر لا يمكن فصل الحق عن الجانب الأخلاقي النظري وهنا تكمل إشكالية الحق فهو غير منفصل نظرياً وعملياً.  

 

تطبيق مفهوم الحق

 

يرى فيشت أنّ مفهوم الحق لا يمكن تطبيقه إلا بوجود نظام تبادلي بين كافة الكائنات العاقلة. فكل فرد عليه أن يعي حريته ويتصرّف بحرية تجعله يفرض على نفسه دائرة من الحرمان، هذه الدائرة تتيح للآخرين أن يتصرفوا بحرية وتحمي حقهم في ممارستها دون تعدٍّ من الآخر الشريك له في المجتمع. أمّا القانون التشريعي فهو قانون الدولة الذي يخضع له الجميع بكل رضا كونه قانون حرية تم بقبول الجميع ليحمي حرياتهم وليفرض الحرية على الجميع بالتساوي ويعترض طريق كل معتد عليها. وهذا القانون مدته يحددها رضا الأفراد به، فهو قائم ما كان مرغوباً به من قبل الناس. وبالتأكيد قد يكون هناك أفراد لا يطبقون دائرة الحرمان على أنفسهم ولا يرغبون بحماية "حق حريتي" وبالتالي فأنا أيضاً غير ملزم بحماية حريتهم وهنا يأتي حق الإجبار الذي يعد حقا أصيلاً لكل كائن عاقل لا يعامله الغير باعتباره كذلك. إنّ مخالفة أي فرد للقانون تعني أنه لا يوجد ما يسمى بالحق الطبيعي فإن كان طبيعياً فلن يوجد من يخالفه.

 

العقد الاجتماعي عقد اتحاد وحماية

يمثل العقد الاجتماعي لفيشت الاتحاد والحماية فهو ليس بعقد تجمع وخضوع فبهذا العقد يتعهد الجميع بحماية الحق الطبيعي لهم وللآخرين. فبموجب القانون وبموجب عقد الاتحاد يجب على الجميع أن يعطوا شيئاً من امتيازاتهم للفقير الذي شارك في إتمام العقد الاجتماعي وتأمين المساعدة له.

وبهذا يوفر العقد الاجتماعي في تصور فيشت توفير التكافل الفعال يمارسه المواطنون اتجاه بعضهم بحماية الدولة ورعايتها.

 

[1]  طرابيشي، جورج. (2006). معجم الفلاسفة. (ط.3). بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر.

 

[2] سلوم ، توفيق. ( 2017). مخطوطات 1844 الفلسفية- الاقتصادية. ( ط 2 ). بيروت : دار الفارابي.

أخبار ذات صلة