رسائل نور أتت بعد حرب

فاطمة بنت ناصر

رسائل النور للإمام سعيد النورسي هي رسائل كما يقول الباحث أحمد محمد سالم بمقاله في مجلة التفاهم تصب في أهميّة تشكيل الوعي للعلاقات المختلفة التي تربط الإنسان بنفسه وبالآخرين وبمجتمعه وبالطبيعة وبكافة الموجودات من حوله. ويتطرّق الباحث في المقال إلى أثر الإيمان في إصلاح الإنسان والمجتمع؛ فالإيمان، كما يرى صاحب الرسائل، هو علاج التعصب وهو منبع التسامح وهو القادر على إزالة ويلات الحروب عبر المعرفة بمحدودية قدرات الإنسان التي بدورها سوف تكبح جماحه عن الخوض في الحروب التي لا طائل منها سوى الويلات والدمار.

هذا المقال، الذي تهب منه نسائم صوفية، نحن في أمس الحاجة إلى سلامه اليوم ليسلب عقولنا بهذا الكم من الهدوء والسكينة والانسجام الذي يخلقه الإيمان في النفس من وجهة نظر الإمام سعيد النورسي. ولكن كيف ندافع عن الإيمان الصوفي الذي يعبر عنه النورسي أمام الإيمان العام الذي يرى فيه إيماناً ناقصاً ومشوهاً؟ الأسئلة كثيرة وتزداد أمام كل جملة في هذا المقال المسالم لأن كل جملة مسالمة فيه تقابلها صورة دامية من قلب واقعنا الإسلامي. فكيف نستطيع فهم واستيعاب مقال كهذا اليوم دون فهم السياق التاريخي الذي مرّ به كاتبه؟ من هذا المنطلق عمدت أن أقدم في البدء إلى خلفية مختصرة عن الإمام النورسي ومتى قام بكتابة هذه الرسائل.

الإمام النورسي من الجهاد إلى التصوف

لقَب الإمام نفسه في مرحلة كتابة هذه الرسائل بـ "سعيد الجديد" سبقتها بالطبع مرحلة "سعيد القديم". فأمّا سعيد القديم: فقد كان في المرحلة التي بدأت بمولده عام 1873 وانتهت بإقامته بمدينة بارلا عام 1926 وقد امتازت هذه المرحلة بالعملية؛ ففيها أعد النورسي العدة لشحذ همم أتباعه للجهاد. فهذا الإمام التركي عايش أزمة مرض الخلافة الإسلامية، وتكالب الطامعين من حولها من الخارج وأصحاب الفكر الغربي من الداخل الذين سعوا إلى تحويل الخلافة إلى جمهورية؛ وقد كان لهم ما أرادوا، غير أنّ هذا التحول في الخلافة التركية لم يكن سلساً بل كانت هناك مقاومة أخيرة لكيان الرجل المريض. وممن قاموا بهذا التحول بالفكر والسلاح كان الإمام النورسي.

عقب هذه المرحلة تحول سعيد القديم إلى سعيد الجديد وقد استمرت بين (1929م و1949م). في هذه المرحلة التي تحولت فيها تركيا من الخلافة إلى الجمهورية ومن حكم الدين إلى الحكم العلماني، قام مصطفى كمال بنفي النورسي لضلوعه في العصيان ضد الدولة بالجهاد والفتاوى التي كان يصدرها. فصدر قرار نفيه إلى إسبرطة ثم إلى قرية نائية اسمها بارلة وهنا سمى نفسه بـ (سعيد الجديد). وهناك تحول النورسي من المناضل الشرس إلى المعتكف المسالم فتفرغ للكتابة وأشهر ما كتبه كان رسائل النور التي سأتحدث عنها هنا.

الإيمان ودوره في الانسجام مع الكون ونبذ الصراع

يقول الكاتب إنّ الإمام النورسي كان يؤمن بدور الإيمان في جعل الإنسان منسجماً مع الطبيعة وما تحويه من كائنات. فالإنسان المؤمن لا يرى في بقية الكائنات التي تشاركه الكون سوى كائنات أخوية تساعده وتمد يد العون له وهو أيضاً يبادلها بذات العون. فالتكافلية هي ما تربط مكونات هذا الكون ببعضها. ما شد انتباهي واستغرابي في كلام الكاتب في هذا الشأن أنّ الغرب في المقابل يقابل مكونات الكون بالصراع بسبب الأفكار الهدامة التي تسيره وأولها (نظرية التطور)! ولا يذكر الكاتب تفصيلاً أو شرحاً في هذا الشأن ويكتفي بسرد التهم؛ فالكاتب يقول إنّ الاستعمار والحروب العالمية والتصحر والتلوث كلها ناتجه من نظام العقل الغربي المختل مع الكون ومكوناته! وشخصياَ أرى أنّ العقل الغربي والعقل المسلم ساهما سوياً في كل نفع للكون وفي كل ضرر أيضاً. ولا أفهم هذه التبرئة العمياء للعقل المسلم بينما نرى في الواقع الصراعات الدموية التي تشهدها المنطقة العربية والتي يمتد حقدها إلى الأراضي الغربية وهي تحمل تبريرات كالانتقام من الغرب وساساتهم بهيئة إرهاب غاشم لا يفرق بين طفل وشيخ. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتبرأ من تلك العقول التي تدّعي أنّها تنتمي للإسلام وإن كانت أساءت فهمه. الحاجة الحقيقة في فهم ما جرى لتلك العقول لتكون ماهي عليه اليوم.

محدودية ونسبية المعرفة تساعدان على نبذ العنف

في هذا يقول الكاتب إنّ الإمام النورسي يشدد على نقص الإنسان ومحدودية قدرته وقصوره البدني والعقلي أمام هذا الكون، الأمر الذي يجعل المؤمن بهذه القدرة المحدودية يعيش في حالة توافقية مع المكونات التي حوله فلا يسعى إلى نشر الشر وإنّما إلى إصلاح نفسه وذاته القاصرة. وفي هذا يخاطب النورسي الإنسان قائلاً: "له من العمر إلا قليل مثل دقيقة تنطفئ، وليس له من الشعور إلا لمعة تزول، وليس له من المكان إلا مقدار قبر..! وله من العجز مالا يحد".

والإيمان بمحدودية قدرات الإنسان حسب النورسي تجعل من الإنسان ميالاً إلى نبذ الصراع والعنف متقبلاً للتعددية وللآراء المختلفة، فهو لا يعلي من شأن معتقداته ويقصي ما يعارضها. وفي هذا تظهر مراجعة فكرية جذرية لم يشر إليها الكاتب بسبب إقصائه لمسيرة حياة النورسي. فهذا الإمام حمل السلاح ضد من يعارضونه في الفكرة وتم نفيه وإقصاؤه بسبب هذه المعارضة التي أساسها فكري ومعتقدي بحت. غير أنّ المنفى كان له دور في مراجعة النورسي لفكره وأصبح ميالاً إلى التصوف والتصالح مع الكون بكل ما فيه، نابذاً للعنف بكل أشكاله، وناصحاً المتصارعين بضرورة فهم قصورهم التكويني الذي سيجعلهم يدركون أن لا جدوى ولا طائل من الصراع والتخاصم.

انعدام العدل وانتشار اليأس وأثره على وحدة الأمة

يعتبر النورسي أنّ الظلم ساهم في انتشار العنف وأنّ الظلم لا يقضى عليه سوى بتطبيق ما جاء من عدل رباني. فتشريع الله في كتابه لا يضحي بالفرد لصالح الجماعة كما هو حاصل في المجتمعات الغربية (وهنا لا يتم ذكر أي دليل على ما يثبت هذا الكلام) ولكن التشريع الإسلامي يأتي لكل ذي حق بحقه وهذا بدوره يشيع الأمان ويصفي نفوس الناس.

أمّا اليأس المنتشر في الدول الإسلامية فيرى النورسي أن يقضى عليه بالإيمان فهو وحده القادر على بث التفاؤل في نفوس سحقها الواقع بظلمه فالمؤمن يدرك أنّ هناك يوم حساب يأخذ فيه كل ذي حق حقه.

إذن الإيمان هو علاج لكل علل هذه الأمة كما يقول النورسي، وبالطبع هو لا يقصد إيمان القشور ولكن الإيمان المسالم الصافي من العنف والصراع. وهو إيمان صوفي بحت؛ فالصوفية لعلها الوحيدة التي لم تتسخ يديها بالدماء حتى الآن.

 

أخبار ذات صلة