صفية الهاشمية
بكثير من الحساسية وقليل من الإنصاف يثير المستشرقون شبهة الجزية؛ نتيجة نظرة متجذرة تتمثل في أن الفقهاء المسلمين يقصدون معنى الدونية في التعامل مع الآخر الكتابي تفسيرا لهذه الآية الكريمة }قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} سورة التوبة :29، ودون مواربة فإن هذه النظرة لها ما يبررها؛ فقد كرستها بعض آراء المذاهب والتنظيرات الفقهية؛ فضلا عن كثير من الممارسات التاريخية التي أسهمت في ترسيخ تلك النظرة في العقلية الإسلامية، وامتدت حتى سيطرت على العقل الاستشراقي.
ويناقش في هذا السياق الباحث خالد المشرفي في دراسته الموسومة بـ"الجزية في التراث الإسلامي وإشكالية العلاقة مع الآخر"، موضوع الجزية، موضحا أهمية إعادة النظر في التراث الفقهي، ومحاولا البحث عن رؤية جديدة تسهم في تبديد تلك النظرة والتخفيف من غلوائها، وتطرح فكرة قد تكون جديدة ودافعة نحو آفاق من التفاهم والحوار البناء بين المسلم والكتابي القائم على معرفة صحيحة ومضامين أكثر نضجا وأهدى سبيلا.
إنّ الرد الأمثل على هذه الشبهة هو نقد الذات أولاً، والاعتراف بأنّ الولاة والحكام في فترة من فترات التاريخ الإسلامي قد وقعوا في خطأ تطبيقي ناتج عن سوء فهم للنص القرآني، وإننا لا نجد حرجاً ولا نرى ضيراً بسرد الوقائع المشينة التي حدثت لأهل الكتاب باسم الإسلام؛ لأنّها لا تشين الإسلام بشيء، ولكنّها تشين الذين مارسوها من الولاة والحكام (والبعض) من علماء الدين، الذين داهنوهم بشكل عام في عصرهم، كذلك بعض المُقلدين من السادة الفقهاء المُعاصرين، الذين ما زالوا بعلمٍ أو بغير علمٍ يدافعون عن تلك الأفعال!
ولكن أليس من الإجحاف والتعسف أن يوجه للإسلام تهمة العداء والتحقير لأهل الكتاب من منطلق ممارسات تاريخية لا ينصفها الإسلام نفسه واضعا لها حداً وجزاءً؟ هل يعقل أن يحكم على الإسلام من منطلق أفعال لم يدع إليها صراحة ولا ضمنا؟ وهل يكفي ليتم الحكم عليه عن طريق شرذمة أساءت فهم النص القرآني، وحرّضت الجاهل منهم ليعبث بحق الكتابي في أرضه؟
إنّ أفعالهم ليست حجة على الإسلام بل الإسلام حجة على الجميع، ولا يجب الخلط بين مراد النص القرآني وبين فهم النص بعيدا عن مراده.
ولنا أن نتساءل كيف لهذا الدين الذي وصفه الله تعالى "رحمة للعالمين" أن يدعو إلى إقصاء الآخر الكتابي وإذلاله وتحقيره وتصغير شأنه كما يدعي المغالون من أهل الكتاب والمستشرقين؟ ولماذا يأمر الله المسلمين والنبي وأصحابه بمقاتلة أهل الكتاب؟
لماذا هذا الأمر وأهل الكتاب لهم دينهم ولهم كتابهم؟ ألا يتعارض ذلك مع قوله تعالى في سورة الكافرون 6: } لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{ ؟ ولماذا حاسن محمد وأتباعه أهل الكتاب ولاينهم وأباح طعامهم ونكاح نسائهم {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} سورة المائدة: 5، ولماذا أخبر الله المسلمين في سورة المائدة 82 بأن النصارى "أهل الكتاب" هم أقرب ود للمسلمين }وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{، ولماذا أمرنا الله أن نفتح آفاق الحوار البنّاء والتفاهم القائم على أمور مشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب بطريقة تكفل احترام ومراعاة الاختلافات بينهما لأننا مختلفون بإرادة الله {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} سورة هود: 118، ولماذا أمرنا الله تعالى بالمعاملة الحسنى لأهل الكتاب } وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ ؟ سورة العنكبوت:46، لماذا يأمرنا الله بكل هذا اللين مع أهل الكتاب ثم يأمرنا أن نشن ونعلن حربا شعواء عليهم؟ ويبيح لنا ممارسة العنف والعدوان في وجه كل كتابي؟
إنّ المغزى من طرح تلك الأسئلة هو إعادة النظر في موضوع الجزية ونقد الذات المتهَمة والمتهِمة أي؛ الذات التي أساءت المعاملة (من جهة الإسلام)، والذات التي وجهت الشبهات (من جهة أهل الكتاب)، ثم إنّه لابد من الدفاع عن ديننا ونرد على هذه الشبهة ونبين وجهة نظرنا الرامية إلى مطالعة الحقيقة المحايدة، كما هي موضحة في الآتي:
أولا: إنّ موضوع آية الجزية (التاسعة والعشرين من سورة التوبة) هو القتال، ومشروعية القتال في الدين جاءت من مبدأ الحفاظ على النفس البشرية مبدأً تتقيد به كل الديانات السماوية والوضعية كحق من حقوق الإنسان النازع للبقاء، ولا يصح قتال في الإسلام إلا لرد عدوان أو أذى واقع أو سيقع بالمسلمين، ولم نر آية من آيات القرآن تدعو إلى القتال إلا للحفاظ على النفس ورد عدوان وأذى لم يبتدئ به المسلمون كما في قوله تعالى: } لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين(8) إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} سورة الممتحنة، وقوله } وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} سورة البقرة :19،
ثانيا: معنى (الذين أوتوا الكتاب) هم كل الناس الذين وصلتهم رسالة من السماء سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، والآية التي ذكرناها تحض على قتال الذين كفروا ممن آتاهم الله الكتاب فكفروا بكل الرسالات السماوية وكفروا برسالة محمد. وهم لم يكتفوا بذلك بل راحوا لا يُحَرِّمُون ما حَرَّمَ الله ورسوله (أي رسول مهما كان)، ولم يؤمنوا بدين السماء.
ثالثا: إنّ الآية تتكلم عن شروط ومواصفات من يستحقون القتال، وهي أن يكونوا قد أوتوا الكتاب قبلا فكفروا به(أي كتاب سماوي)، وأن يكفروا بالله وبيوم القيامة، ولا يحرمون أو(يحللون) ما حرّم الله ورسوله (أي رسول كان)، ولا يدينون بدين حق أي لا يدينون بدين سماوي مع اقترافهم لكل الموبقات والإفساد رغم علمهم. لذلك فهو قتال لصيانة الأخلاق والحرمات لكل أهل الرسالات، إنّه قتال لمنع الإفساد في الأرض وانتهاك الحرمات باسم الحرية، إنه قتال لصيانة أمن وأمان المجتمع.
رابعا: من لا تنطبق عليه الشروط أعلاه، ليس مجبورا بدفع الجزية مهما كانت ديانته، بل هو في أمن أمان لقوله تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ سورة البقرة :62
فهل رأى أهل الجهل وممن ينظرون للقرآن من ثقوب سوداء من صنعهم أنّهم ظلموا أرقى حضارة إنسانية نزلت من السماء وهي القرآن الكريم.
