علاقة المسلم بغيره.. سلم أم عدوان؟

صفية الهاشمية

جاء القرآن الكريم لينظِّم حياة الإنسان بكافة مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والدينية والنفسية؛ حيث لم يترك مجالا من مجالات حياة الإنسان إلا وقد وضع له أسسا وقواعد تنظمه، وأهم تلك المجالات هو المجال الاجتماعي؛ لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، يعيش في مجتمع وينتمي إلى مجموعة من البشر ولا بد من تنظيم وضبط علاقة الإنسان بالآخر داخل المجموعة وخارجها. وفي هذا المقال، توضيح لعلاقة المسلم بغيره، ولمَا كانت علاقة المسلم بأخيه المسلم ذات قواعد واضحة جلية في كتاب الله فلم تشكل أية قضية عند المسلمين، أما عن علاقة المسلم بغير المسلمين، فإنه موضوع كثر فيه الجدل وتعددت حول وجهات النظر.

ولتوضيح ذلك، ينطلق الكاتب أحمد أبو الوفا من خلال مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- حول "الفكر الإسلامي المعاصر وقضايا الجهاد والسلام"، لتأطير هذه القضية في نظرية مؤداها "أن السلم هو أساس العلاقة مع غير المسلمين الذي يدعمه الرد المسلح"، مشيرا إلى عدم وجود نص صريح وواضح في الكتاب أو السنة حول علاقة المسلم بغير المسلم، لكن هنالك ما يدعو إلى استنباط أصلها بالبحث في روح التعاليم الإسلامية نفسها التي تتفق والفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعا، واستنادا لجوهر الفطرة السليمة فإنها تأبى إلا أن تكون في علاقة سلمية مع المسلمين وغير المسلمين في الأصل، ومتى ما شعرت بالخوف أو عدم الأمان، فإن الفطرة تُملي على الإنسان ليدافع عن نفسه؛ لأن فطرة الإنسان تميل إلى البقاء ومتى ما تم تهديد بقائها نزعت إلى القتال؛ لذا فإن أصل العلاقة هو السلم ابتداءً والحرب استثناءً، ثم إن هذه الفطرة السليمة لابد لها من دين يحافظ على سلامتها "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" (الروم:30)، والفطرة السليمة تميل الى الدين السليم كما ارتضى خالقها لها "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة:3).

وحيثما وُجد الإسلام وُجد السَلام، والبرهان على ذلك كثير؛ فالإسلام لم يأتِ مخصوصا لنوع معين من بني الإنسان بل هو دين العالمين (المسلمين وغير المسلمين)؛ إذ يقول تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107)، فلنا أن نتساءل كيف لدين اشتق من كلمة السلام أن يدعو للحرب والعدوان ومشرعه السلام "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ" (الحشر:23)، ويثاب من أسلم يوم القيامة بجنة سميت بدار السلام "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ" (يونس:25)، وعند دخولهم فيها يحييهم السلام بتحية السلام "تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ" (الأحزاب :44)، وقرآنها (معجزة الإسلام) تنزل في ليلة سلام: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ... سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر:5،1)"؟!! وهنا تظهر العلاقة المتجلية بين الاسلام والسلام من حيث الاشتقاق والمعنى؛ مما يعكس لنا ابتداء أنه دين سلام لا محالة.

وحريٌ بنا أن نتأمل ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحث على السلم، إذ لابد من الاستشهاد بها للرد على كل من يُلصق الإسلام بتهمة الظلم والعدوان وهو منه براء، وتلك الأدلة -من وجهة نظري- لا تخرج عن ثلاث إشارات، والثالثة لم تأتِ إلا استثناء:

الإشارة الأولى: وجود فئة غير المسلمين بين بني الإنسان على هذه الأرض، وهذا يدلل على أن الاسلام يترك غير المسلم وشأنه، كقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ" (التغابن:2)، و"وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ" (آل عمران:20).

الإشارة الثانية: حث القرآن الكريم على دعوة غير المسلمين بالتي هي أحسن دون قتال ولا حرب، وهذا واضح في الآيات التي نزلت قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بداية دعوته، مثل قوله تعالى: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ" (المؤمنون:96)، وقوله: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" (المزمل:10)، ولم تخل الآيات التي نزلت بعد الهجرة النبوية من مبدأ السلم مع غير المسلمين كقوله تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت:46)، وقوله: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل:125).

وبالالتفات إلى سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد ورد عنه أنه أمَّن أهل مكة على أنفسهم في فتح مكة قائلا: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن"، وقولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وخلاصة ما تقدم، ليس هناك ما يدعو للريب والشك في سِلمية الإسلام؛ ولكن من يقرأ كتاب الله يمر على آياتٍ فيها بيان واضح بمشروعية قتال غير المسلمين، والعاكف على كتب السير يستظهر لديه أن المسلم خاض معارك كثيرة أُسيل فيها الدماء وقتل فيها آلاف (غير المسلمين). فكيف لدين السلام أن يمارس قتالا في وجه غير المسلمين؟

هنا.. ينتقل الكاتب إلى قضية أخرى؛ وهي: مشروعية الجهاد أي العلاقة الاستثنائية مع غير المسلمين، لماذا ومتى وكيف؟ وهي الإشارة الاستثنائية.

يفند الكاتب الحكمة من الجهاد، ويستبطن دوافع المسلمين فيه، ويلخصها حسب نظريته التي أوضح فيها إلى أن أصل علاقة المسلم مع غير المسلمين هي السلم مع الرد المسلح، ويقصد بالرد المسلح هو رد عدوان على المسلمين واقع بهم أو ما سيقع، وهنا تنزل أمر الله بالقتال "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ" (البقرة:190)، وقوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج:39)؛ فما ينبغي على إنسان كائنا من كان وعلى أي دين كان أن يرضى اعتداءً وظلماً عليه، فضلا عن الإنسان المسلم الذي يدين بإسلام ضبط له حدوده مع غيره، وعندما علا شأن الإسلام وأسس المسلمون دولة إسلامية كان لابد أن يُفطن إلى مسألة تنظيم العلاقات الخارجية حفاظا على سلامتها واستقرار أمنها، لذا شُرع القتال على المعتدين من غير المسلمين فقط؛ وقُيد بمجموعة ضوابط ملخصة في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل غزوة مؤتة: "أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً".

وما يجدر ذكره في الختام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبدأ بالقتال قط، فقد تواتر عنه أنه خاض سبعا وعشرين غزوة لرد عدوان غير المسلمين المتسببين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بأذى واقع على المسلمين أو أذى سيقع عليهم، كما أن تلك الحروب ما كانت لتخرج النبي عن أخلاقه السامية، وصدق من قال "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107).

أخبار ذات صلة