مريم العدوية
أعد أستاذ الفكر الإسلامي والغربي في جامعة محمد الخامس دراسة جديدة حول فكر الإمام أبي الحسن الأشعري (مؤسس المذهب السني من جوانبه المختلفة: الكلامية والأصولية والسياسية والأخلاقية).
وذلك من خلال رافدين لا يُمكن أن يحيد أحدهما عن الآخر.
* يكمن أولهما في: كون الفكر الأشعري يؤخذ من مجالين الأول المؤلفات مثل:
- الإبانة عن أصول الديانة
- مقالات الإسلاميين
- مجموع الرسائل
أما المجال الثاني فهو: ما يُؤخذ عن أعمال من تتلمذوا على يد الأشعري أمثال: البقلاني والبغدادي والغزالي الذين جاؤوا في العصر الكلاسيكي – الذي أفرد له العلوي لاحقاً شرحاً مستفيضاً.
*وأما الرافد الثاني فهو: نتيجة الجهد القرائي الذي انتهى إلى خلاصة أن الأشعرية إيديولوجيا مستقلة لها محتوياتها الذاتية ودوافعها الداخلية واتجاهاتها كما لها قوانينها العامة، وهذا ما يقود إلى أن الفكرة الأخيرة تدل على أنَّ الصورة النمطية المرسومة عن الأشعرية خاطئة؛ حيثُ لا يرى أصحابها الأشعرية سوى من خلال تبين موقعها بين طرفين مناقضين لها في بعض الجوانب على الأقل وهما: الاعتزال والاتجاه الحنبلي المُتشدد.
ثم وضح الكاتب مفهومه عن الأشعرية، وقبل أن يستأنف قراءته الجديدة للأشعرية حدد بروتوكول القراءة الذي سينتهجه في عمله، حيث يرى أن من المهم تسليط الضوء على مكونات الخطاب الأشعري الثلاثة وهي: مقام العقل ونظام المعرفة والعلم الكلي وتنتهي قراءته بخلاصة عامة ومجموعة من التنويهات.
- عصر الأشعرية الكلاسيكي
ذكر ابن خلدون في مقدمته في فصل علم الكلام بعد أن عرّف هذا العلم وموضوعاته وتطوره في الإسلام، الإمام الأشعري وأتباعه ومنها يمكننا الأخذ بالأحكام التي أطلقها ابن خلدون على الأشعرية آنذاك.
حيثُ إن كثرة اتباع (إمام المتكلمين) أدت إلى ظهور القاضي الباقلاني الذي تصدر للإمامة وهذبها، واضعاً المقدمات العقلية التي تقوم عليها ومؤكدا على أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول.
ولكن ضعف انتشار المنطق اليوناني في أرض الإسلام ونفور المتكلمين من ممارسته جعل (صور الأدلة التي تعتبر بها الأقيسة) مهجورة. وجاء بعده أبو المعالي الجويني بكتاب (الشامل) ثم أتبعه بملخص (الإرشاد) ومن هنا انتشر علم المنطق بين الناس وأصبحوا قادرين على التفريق بينه وبين الفلسفة، ثم أتبع ما وصلوا إليه القاضي وأصبحت هذه الطريقة متعارفا عليها وسميت بـ (طريقة المتأخرين).
وبهذا فصّل ابن خلدون بين طريقة (المتقدمين) وطريقة (المتأخرين) من جهة. حيثُ الفرق بين الطريقتين يكمن في أن الأولى ذهبت إلى: بطلان المدلول لبطلان الدليل، بينما ذهبت الثانية إلى: الجزم بأنّه ليس من شأن بطلان المدلول بطلان الدليل.
وأشار العلوي هنا إلى أن نظرة ابن خلدون تلك إلى الطريقتين جعلت مؤرخي الفكر الإسلامي ينطلقون منها، وهو الأمر الذي يعترض عليه العلوي ومنه يتضح ما أشار إليه في استهلال مقاله بـ (العصر الكلاسيكي) بإيجاز.
تناول الكاتب بعدها كتابين من كتب (المتقدمين) لكل من: الباقلاني والبغدادي، وكتابين (للمتأخرين) لكل من : الرازي والإيجي؛ ساعيا إلى إيجاد مقاربة نموذجية بينهما، وقد توصل إلى وجود اختلاف منهجي كلي بينهما، سواء في عرض المباحث وترتيبها أو معالجة المحتوى، ولكن الأمر الذي لا يمكن أن نغفل عنه هو القرب الكبير بين كتب المتقدمين وبين كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي) وذلك من حيثُ اللغة والمصطلح والقضايا التي يتعرض لها الكتاب، رغم غياب الحضور الإغريقي في كتب المتقدمين وهو الأمر الذي طغى على طابع كتاب الغزالي؛ وهذا لأنَّ المفاهيم اليونانية للمنطق اليوناني لم تكن معلومة زمن الباقلاني والبغدادي. ومن جانب آخر فإنَّ كتب (المتأخرين) وإن اقتربت من طابع كتاب الغزالي فلا يمكن القول بأنها صادرة عن نفس القالب خاصة من ناحية المضمون. والقراءة لتلاميذ الأشعري لا شك تؤدي إلى فهمه أكثر وذلك؛ لأنَّ تلاميذه ساروا على نهجه خطوة بخطوة كما يتجلى ذلك في الدراسة التي قام بها الراهب الفرنسي الأب ميشيل الآر .
2-القراءة: البروتوكول والبنود
تعود بنود القراءة التي انتهجها العلوي إلى أربعة بنود أساسية وهي:
- عدم اتباع مضامين أصول الدين؛ وذلك لعدم جديتها بل يكفي الوقوف على كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) لمعرفتها؛لأن كل ما جاء بعده مجرد شروحات له، وبذلك الأهم هو التنبيه إلى طريقة المعالجة وكيفية النظر؛ لأنها الطريقة الأمثل لتبين الفروق وإيضاح الصورة.
- البحث خلف الأقوال المعلن والمفكر فيها من قبل الأشعرية في العصر الكلاسيكي من خلال خطاباتهم
ج. البعد الإيديولوجي للخطاب الأشعري بشقيه الأول: مخالفة الخصم الباطني والثاني: المحور الموجه وذلك من شأنه سبر أغوار الخطاب المموه.
د. عدم التوقف على اتجاه السلب في المناقشة (وهي بالتعريف من خلال ليس ما هو كائن في الأشعرية)، بل من خلال اتجاه الإيجاب وذلك من خلال تعيين الخصائص والسمات وذلك؛ لأنه ماهية القراءة ومبرر وجودها.
3-مكونات الفكر الأشعري الكلاسيكي الأساسية
إيماناً من كون المكونات الأساسية للفكر الأشعري هي الصورة والشكل الذي من خلاله تم نقل الفكر الإسلامي آنذاك يمكن اعتباره ناقلاً للعلاقة التي تقوم بين العقل والنقل الصادق، ومن هنا يطرح العلوي أسئلة ثلاثة لتقريب المدارك حول هذا الشأن:
1 ما نظام المعرفة في المنظومة الأشعرية في العصر الكلاسيكي؟
2 ما العقل في الفكر الأشعري وما مقامه؟
3 ما العلم الكلي وماذا يحدث فيه؟ حيثُ ناقش ماهية العلوم الدينية
وقد انتهى إلى الإقرار بأنَّ النظرية السياسية الأشعرية هي ما يوجه القضايا الكلامية ويمنحها الشرعية بما يقابلها بنظرة الإمام المعصوم عن الشيعية. وبهذا يمكن القول بأنّ الأشعرية تمثل درجة تطور المذهب السني الذي استطاع احتواء تيارات غريبة عن ملة الإسلام، وذلك من خلال تعريب عدد من المفاهيم الواردة من الشرق والغرب، كما تم استقبال التراث اليوناني والهيليني من بعده وهو الفكر المغاير بقوة للإسلام. وهو ما أدى إلى نشأة علم البلاغة والكلام وأصول الفقه وظهور فلاسفة الإسلام الكبار، الذين ارتووا من معين الإغريق ومن ثم حاولوا إعادة صياغة الفكر بما يتناسب وبيئة الإسلام، في رحلة لم تكن سهلة على الإطلاق، حيث واجهتم الكثير من الصعوبات.
وتكمن خلاصة دراسة العلوي للفكر الأشعري في أمرين:
1.الانتباه إلى ما يحدث في العلم الكلي من تأسيس مزدوج لكل من العقل ومقامه ووظيفته وكذاك من تمكين العلوم الإسلامية والأسس النظرية التي تكون في حاجة إليها.
2. التنبيه إلى مكانة الصدارة التي تحتلها الفكرة (السياسية) في النظام المعرفي الأشعري وإلى دور السياسة في البناء المعرفي خاصة في لحظة التأسيس وإقامة الأعمدة.
إن محاولة قراءة الفكر الأشعري في الفترة الكلاسيكية التي عمد فيها إلى إرفاد الفكر الإسلامي بالعلوم الإنسانية المختلفة، من شأنه أن يوصل القارئ إلى مفهوم الوسطية الذي يملك زمامها العقل وحده وبالتالي يبعدنا عن مزالق السلبيات الزائفة في جانبنا الروحاني دون غلو وأوهام حول النقل ومسلمات الشرع، وهو ما سوف يساهم بإيجابية في فهم الفكر الإسلامي ومراحل تطوره.
