الأنظمة الديمقراطية ومسيرة الحريات العامة

مريم العدويَّة

أشارَ الكاتبُ التونسيُّ رافع بن عاشور في مقال له بعنوان "الحريات العامة في النظم الديمقراطية" -نُشِر عبر صفحات مجلة "التفاهم"- إلى خُصوصية السلطة في هذا القرن؛ حيثُ أصبح لها عين ثاقبة ترصد بها الحياة المدنية والمعطيات الشخصية للأفراد بدقة متناهية. وفي ظل "الإدارة العمومية" التي تُشكِّل مطيّة الدولة لممارسة نفوذها الإدارية بكل ما أوتيت من سعة الأجهزة المتقدمة والكادر البشري المؤهل، فإن كفة الحريات العامة تظل في خطر من أن تضيق عليها الأولى؛ لذا يعلو باستمرار صوت الحريات العامة وحقوق الإنسان؛ فالأنظمة السياسية -وإن كانت ديمقراطية- إلا أنها تشكل تهديداً مستمراً للحريات العامة وضمان ممارستها الهادئة.

وحتى تبقى كِفّة الميزان متوازنة بين الحفاظ على الحريات العامة وما شاكلها من حقوق الإنسان وروح القوانين، مع كفة النظم السياسية التي تكفل الأمان بدورها وما سواها من متطلبات الاستقرار، وجب أن يكون للنظم السياسية حدودها التي لا تشطح عنها؛ لتغييب حضور الكفة الأخرى؛ فلا حرية مطلقة ولا سياسية مطلقة العنان دون قيود.

وفي المقال تطرق الكاتب لثلاث نقاط أساسية حول الموضوع؛ هي:

1- مفهوم النظم الديمقراطية.

2- مفهوم الحريات العامة في الدول الديمقراطية.

3- آليات تنظيم الحريات العامة في الدول الديمقراطية.

 

أولاً: تعريف النظم الديمقراطية

الديمقراطية هي أيديولوجيا تُعنى بتنظيم العلاقة بين طرفين هما الدولة والمواطن، وما يعنيه بالضبط الكاتب في هذا المقال هو الديمقراطية الليبرالية (التحررية)؛ حيثُ إن ما عداها من أنواع أخرى للديمقراطية لم يعد لها ذلك الحضور الكبير.

وللنظم الديمقراطية شروط تنظيم قواعد السلطات المنتمية إليها ومنها:

أ- شروط وجود النظام الديمقراطي:

تتفرع إلى أقسام؛ هي: الشروط الاقتصادية، والشروط السياسية، وهكذا يتبين أن التحرر السياسي ينطلق من مبدأ أساسي هو القيمة المطلقة للكائن الفردي التي تنعكس بدورها بثلاثة جوانب أساسية؛ وهي: حق الانتخاب، والاعتراف بالحريات، والمساواة

أما القسم الثالث من شروط وجود النظام الديمقراطي؛ فهو: الشروط الاجتماعية؛ وهي تلك المتعلقة بالمجتمع المدني والعلاقة بين الأفراد والمجموعات داخل المجتمع، ومنع الصراع الطبقي مع الحفاظ على وجود الاختلافات الطبقية التي لا مفر منها.

ب- قواعد تنظيم السلطات في النظم الديمقراطية:

حيث الشعب يمارس السيادة؛ وذلك من خلال التالي: الوصول إلى السلطة ويتمثل في الانتخابات الشرعية وحق الترشح والانتخاب، وممارسة السلطة حيثُ السلطة ترتكز على احترام وحماية الأفراد.

وهناك مبدآن للسلطة في النظم الديمقراطية؛ هما:

- مبدأ تفريق السلطات.

- دولة القانون؛ فالقانون فوق الجميع.

بينما القواعد التي ترتكز عليها السلطة هي:

* تمارس الأغلبية الفائزة في الانتخابات ولايتها تحت مراقبة الأقلية.

* ضمان الحريات.

* التدخل المباشر لصاحب السيادة في حالة القرارات المصيرية.

 

ثانيا: مفهوم الحريات العامة في الدول الديمقراطية

تتعدَّد المفاهيم في هذا الإطار، ولا يوجد إجماع حول مضمون واحد للحريات العامة.

  1. المفهوم القانوني للحرية:

تحت مظلة هذه الأخيرة نجد شبكة متداخلة من الأطر بين ما هو اجتماعي وبين ما هو قانوني في ظل الحرية؛ فحرية الفرد لا تخصه لوحده في أغلب الأوقات بل تعني المجتمع الذي هو جزء أساسي منه، ولكن على سبيل المثال لا الحصر عندما يتعلق الأمر بحرية التفكير أو الحق في السلامة الجسدية فإن منها تنطلق الحريات العامة التي يُعنى بها الكاتب في هذا المقال.

  1. الحريات العامة:

* اختلاف التعاريف:

لقد مرَّت الحريات العامة بتعاريف كثيرة خلال مسيرتها التاريخية، ويبقى في نهاية المطاف أساسها راسخا؛ فهي التي يكرسها القانون الدستوري أو الإداري أو الدولي أو الخاص مع بقاء مسألة التبويب في إطار الخلاف والاختلاف.

 * تعدد التصانيف:

تتعدَّد تصانيف الحريات العامة باختلاف المعايير المستعملة ويقوم الجدل       الجوهري حول بعض الحقوق؛ حيث يشكك البعض في كونها حريات عامة. لذا وجب اعتماد أقل التصانيف جموداً وأكثرها مرونة، فمن المفيد التفريق بين الحريات الفردية والحريات الجماعية من جانب آخر.

 

ثالثا: الشروط الكفيلة بتحقيق الحريات العامة.. ومنها:

أ- اعتبار الفرد قيمة ذاتية: فلا يمكن للحريات العامة والديمقراطية أن تعلو إذا ما تم تغييب حق الفرد على حساب المجموعة، ولقد برزت الحريات العامة وحقوق الإنسان بصورة كبيرة في إطار نظرية القانون الطبيعي والنظريات الفردية التي تطورت خلال القرن الثامن عشر بأوروبا، ومن أساسيات النظرية الفردية التالي:

1- الدولة مُسخَّرة للفرد وليس العكس.

2- على الدولة أن تترك الفرد يحقق بنفسه جميع إمكانياته.. فالفرد هو حجر الزاوية على عكس ما ترمي إليه نظريات أخرى مثل النازية والماركسية، حيثُ ترفضان رفضا قطعيا أن يكون الفرد الهدف بل تجعلاه وسيلة منقادة من أجل المجموعة.

3- الديمقراطية وسيادة القانون:

إذا كانت الفردية تشكل الإطار النظري للحريات العامة فإن الدولة الديمقراطية، تشكل الشرط العملي لهذه الحريات؛ إذ لا يمكن حماية الحريات إلا في نطاق هذا التنظيم للسلطة ونعني بالديمقراطية هنا الديمقراطية التحررية مثلما تقدم ذلك أي تلك التي تقوم على مبادئ بسيطة أثبتت التجارب الحديثة وانهيار أنظمة أوروبا الشرقية أن لا مناص منها.

 

رابعاً: طرق تنظيم ممارسة الحريات العامة

بما أنَّ الدولة مسؤولة عن حماية الحريات العامة؛ فأمامها خياران:

الأول: يتيح الفرصة لممارسة الحرية بدون أي شرط مسبق، ولكن هذا لا يذهب نحو الحرية المطلقة. وتسمى نظم جزائية.

الثاني: خاضع لشروط وإجراءات سابقة لممارسة الحرية وتسمى نظم وقائية.

ويُمكن تطبيق النظامين معا حسب طبيعة الحرية محل التقنين. ومن الناحية العملية نجد أن النظامين يتشابكان في نتاجهما فالنظام الوقائي يؤدي إلى الردع بمعنى أنه وقائي بينما الوقائي يؤدي عدم احترامه إلى آثار جزائية.

* النظام الجزائي: عمليا هو اختصاص وضع حدود الحرية وقيودها بالرجوع إلى المشرع نفسه الذي يجرم بعض الأفعال ويحجرها بقوانين سابقة الوضع غير رجعية تعين بوضوح الجزاء المرتقب في حال الإقبال على المخالفة.

ومن إيجابيات هذه الطريقة:

أولا: إعلام الشخص؛ فقبل ارتكاب الفعل يكون الشخص على بينة من العقاب المرتقب.

ثانياً: يجنب هذا النظام تدخل الإدارة ولا يجعلها رقيبة على الحرية.

ثالثا: إذا تمَّ تجاوز الحدود الموضوعة بصفة قانونية، فإنَّ القاضي الجزائي هو المكلف بملاحظة المخالفة أولاً وبإيقاع الجزاء ثانيا.

رابعا: في تكليف القاضي الجزائي بهذا الدور ضمان للحرية.

خامسا: القاضي الجزائي لا سلطة تقديرية له في التجريم بل هو خاضع لمبدأ شرعية المخالفات والعقاب.

1- النظام الوقائي: يتضمن النظام الوقائي تحديدا وتقييدا مسبقين للحرية العامة من ذلك أن ممارسة الحرية مشروط بتدخل مبدئي للإدارة من أجل هذا فإن النظام الوقائي يدخل في نطاق الشرطة الإدارية.

وفي ظل هذا النطاق، يُمكن للإدارة الالتجاء إلى ثلاث طرق؛ هي:

* الإعلام المسبق.

* الترخيص المسبق.

* التحجير.

هذا.. وسيبقى الحديث عن الحريات والدفاع عنها حديثَ الساعة دائما، حتى في تلك الدول الراسخة في قدم الديمقراطية؛ فالحرية مهددة دائما بل ويتجدد التهديد بصفة مستمرة بسبب التقنيات الجديدة والمتطورة؛ لذا ستبقى دائرة الحرية والسلطة حاضرة في نطاق التساؤل. وهنا يبرز دور المجتمع المدني والصحافة كقوة ضاغطة قد تضاهي دور القانون وآلياته.

أخبار ذات صلة