مريم العدويَّة
استهلَّ الكاتبُ برنارد لويس أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة "برنستون" سابقاً، وأحد كبار المتخصصين في التاريخ الإسلامي، مقاله المنشور عن محاضرة له في صفحات "التفاهم" والمعنون بـ"مستقبل العالم العربي في القرن الواحد والعشرين"، بالإشارة إلى أهمية دراسة التاريخ بالنسبة للشعوب، وما لذلك من أثر في مستقبلها.
حيثُ تكون دراسة التاريخ بمقارنة الأحداث بين الزمن الماضي والحاضر لشعب من الشعوب أو لفترة من التاريخ، ومن أهم المقارنات التي أشار إليها لويس هي المقارنة بين الوعي الجديد الكبير وفهم التاريخ الموجود بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الغربيين المسلمين، وهذه الفئة الثانية تعطي التاريخ والوعي أهمية كبيرة وليس من باب الكتابة فحسب. بينما نجد الكثير من الكتابات التي تعتمد المقارنة سواء في الأحداث المحلية أو العالمية ومقارنتها بالأمم الأخرى، ولكن لم يكن لها حظ من الاهتمام ذاته. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر الحضارة الهندية التي لم تستأنف كتابة التاريخ إلا بعد دخول المسلمين إليها، الذين لم يكتفوا بتدوين التاريخ الخاص بهم، بل عادوا إلى ماضي الهند؛ إيماناً منهم بأهمية الأخذ من دروس التاريخ. ومن جانب آخر، عندما نقف على عبارة: "هذ التاريخ انقضى ومات، ولا داعي للحديث عنه" لدى عامة الشعب في إنجلترا، نتبيَّن أنَّ الاهتمام بالكتابة التاريخية وإن كان موجودا عند المؤرخين الكبار إلا أنَّ الشعب لم يكن بذلك الوعي الذي يسمح له بإدراك ما للكتابة التاريخية من أهمية بالغة.
وفي العراق وإيران إبان الحرب الواقعة بينهما في تسعينيات القرن المنصرم، تجلَّت صورة أخرى من صور أهمية التاريخ؛ حيثُ كان الإعلام يستخدم أسماء الرموز التاريخية المعروفة لينتفض الشعب في كل مرة؛ فكلمة "يزيد" أو "معاوية" مثلاً لها دلالة تاريخية كفيلة بإشعال الحرب في جهة وإخمادها في جهة أخرى! وبهذا يُصبح للتاريخ دائماً ذاكرة في أذهان الشعب يمكن استدعاؤها متى ما تطلب الأمر، وتطويعها في الاتجاه المراد تجاه الآخر، ولطالما سعى القادة لهذا بذكاء، ولا يفوتنا في هذا المقام ذكر كلمات أسامة بن لادن بعد أحداث 11 من سبتمبر: "منذ أكثر من 30 عاماً يعاني المسلمون من الاستعمار والإذلال"، لقد استطاعت كلمات بن لادن هذه أن تعود بذاكرة العرب والمسلمين إلى القرن الثامن عشر، وما حدث بعد الإطاحة بالدولة العثمانية ودخول الفرنسيين لمصر، وما تلى هذه الأحداث من وقائع أدت إلى تراجع الدولة الإسلامية وانتهاء الخلافة. إنَّ كلمات بن لادن تلك أشعلت النار في نفوس العرب والمسلمين، وقذفتهم في شرك الشعور بالإهانة والإحباط بكل تأكيد؛ فالمسلمون والعرب وإن لم يقعوا لوقت طويل تحت مظلة الاستعمار، إلا أنهم عاشوا زمناً طويلاً رهناً للهيمنة، وتاجر فيهم الأوروبيون بالمعاهدات والوثائق!
ويُمكن القول بأنه وعلى مدى مائة عام كانت في كل مرة قوة غربية تتحد مع أخرى ضد أخرى، وصولاً إلى الثمانينيات والتسعينيات، ومن هنا تغيَّرت اللعبة وأصبح القطب مُوحَّداً مُمثلاً في الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبه بدأ الهجوم على الولايات المتحدة، وقامت هي بدورها بالرد تحت مسمى "محاربة الإرهاب"، وهي حرب مبنية على أيديولوجية محددة، ووحده المستقبل سينبئ عن مدى نجاحها أو فشلها.
وعن كَوْن الولايات المتحدة هي القوى المسيطرة الأولى الآن، تكثُر الإشارات في موضوع تختلف الآراء حوله وهو وصف الولايات المتحدة بالإمبريالية، خاصة على هامش أحداثها مع كل من: لبنان والصومال، ولماذا انسحبت منهما بعد فترة وجيزة وقبل إتمام ما جاءت به أصلاً! ويبدو أن سبب التباين في الآراء يكمن في أن البعض يلجأ إلى تفسير الأحداث التاريخية من وجهة نظره الخاصة، بينما البعض يعاني من نقص في إمبرياليته من الأساس.
ويرى لويس أن الوقوف على عتبات استشراف مستقبل العالم العربي يتطلب أولاً الوقوف على قضيتين؛ هما: القضية الفلسطينية والعراق.
وعن المسألة الفلسطينية، أشار لويس إلى أنَّ الحل يكمُن في مناقشة الأمر مباشرة بين الدولتين الفلسطينية وإسرائيل دون وسطاء، ولهم في تجربة السادات مع إسرائيل مثال عندما اتخذ من المغرب أرضا للقاء بالمفوض الإسرائيلي وليس كوسيط، ومن ثم قام بتسوية الأمر مباشرة. وبما أنَّ الدولتين الفلسطينية وإسرائيل تقران بالديمقراطية الداخلية فعليهما أن تنفذا الديمقراطية كذلك في الخارج، وأما عن موضوع الحدود فيمكن الوصول إلى حل ولا يبدو الأمر مستحيلاً.
وعلى الجانب الآخر بالنسبة للعراق، فإنَّ الخطأ الحادث هو اللغط بين الحرية والاستقلال، وهناك فارق كبير بين الكلمتين؛ "ففي عصر الاستقلال يضربك العسكري بالحذاء على الفم، وفي عصر الاستعمار يضربك بالحذاء على الرأس".
وفي هذا الإطار، أكَّد الكاتب بأنه ينبغي التطرق إلى عدة اصطلاحات سياسية واقتصادية، ولكنه ذهب إلى تأجيلها لحديث قادم له في نفس الموضوع.
وفي نهاية حديثه، تحدَّث لويس عن الغاز والبترول ما بين الاستنفاد أو الاستبدال، مُؤكداً على أهمية إيجاد بدائل أكثر أمناً وسلامة على البيئة وبعيداً عن المشكلات السياسية.
إنَّ العمل يداً بيد بالاتحاد مع الآخر وباستغلال ما هو موجود من الثروات قادر على ترميم أخطاء الماضي وتجاوز ما حصل في الحاضر والوصول إلى مستقبل أفضل بالنسبة للشعوب العربية، ولكن الانقسام والبعد عن الآخر بل والعمل ضده لن يأتي بنتائج إيجابية إلا لصالح فرق الاستشهاديين والانتحاريين، وعند هذا المنعطف سيكون الخيار مفتوحا للقوى المسيطرة؛ سواء كانت الولايات المتحدة أو غيرها، لتمثيل دور أسياد السلام والاستعمار والهيمنة من جديد.
ثمَّة دور جسيم يترتب على أبناء الشعوب العربية، والاختيار متاح الآن بين أيديهم لصنع مستقبلهم كما يريدون، لكن ليكونوا على ثقة بأن الخيارات لن تبقى دائماً متاحة بذات الشكل فليشمروا عن سواعد الجد والعمل.
