القيم وإشكالات الهوية

منال المعمرية

أصبحنا نتعود على سماع أو قراءة خطابات قلقة تتحدث عن "فقدان القيم"، أو "أزمة القيم"، وتمثل هذه الأزمة جزءًا من أزمة شاملة، ذلك أنَّ النظام المعولم الذي وضعه البشر لنقل وتوزيع الثروات لا يُساعد على القول بأنَّه يشتغل لصالح خير الإنسانية، ويطال الشعور بالقلق والفوضى كل المجالات: السياسية والمالية والمجتمعية والبيئية والقيمية. يتناول مقال الدكتور محمد نور الدين أفاية، والمنشور بمجلة التفاهم، مفارقات القيم والأخلاق في الفكر الفلسفي المعاصر، مع ما يتضمنه من نقاط عدة أبرزها مفهوما التسامح والهوية. الجدير بالذكر، أن أفاية هو أستاذ الدراسات الفلسفية الحديثة في جامعة محمد الخامس في المغرب، وله أعمال رصينة عدة، واشتغالات يشار إليها بالبنان.

في مستهل مقاله، يكتب أفاية _حسب فلاديمير يانكليفتش_ بأن الفلسفة الأخلاقية هي أول مشكلة تواجهها الفلسفة، ذلك أن اقتران الفلسفة بالأخلاق يزيد على اضطراب هوية الفلسفة اضطرابا وغموضا آخر. في المقابل، يرى إيمانويل ليڤيناس، بأن الأخلاق ليست مجرد شعبة من شعب الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى، والتفكير فيها هي المهمة الأساسية للتفلسف. وفي هذا السياق، يعلن ليڤيانس تبرمه من مفهوم "الذاتية" الذي أنتجته الأزمنة الحديثة، ويصر على أهمية الآخر، فالذات مطالبة بخلع مركزيتها والذوبان من أجل إنسان آخر.

إن اللحظة الفلسفية والتاريخية الظرفية التي يمر بها العالم، تنتج قضايا جديدة يتعين على العمل الفكري أخذها بعين الحسبان والاعتبار. حيث إن الخطابات الجديدة تتخذ من القيم والأخلاق موضوعًا لها.

فكيف يمكن التفكير اليوم في موضوعات القيم والتواصل، والهوية، والسياسة، والتسامح، والتنوع، من دون أن نأخذ في الاعتبار الأشكال الجديدة للعنف، واللامساواة، والإقصاء، والأصولية ومظاهر الاختلال الحديثة؟ وكيف يمكن التفكير حاليًا في الرابطة الاجتماعية، أو في شروط العيش المشترك وعلاقته الثلاثية بالدولة والاختلاف والديمقراطية؟

بالنظر إلى الهوية كقضية تتموقع في مساحة المناقشات الفلسفية والوطنية والدولية وتتناول مواضيع القيم والاختلاف بشكل جوهري، فهي تعتبر أساسا لتأطير الشعوب والإثنيات فيما تنعته بتعبيرات الخصوصية، وهي أيضًا تشمل النظر إلى الآخر باعتباره كائنا عدوانيا، مزعجا، لابد أنه يشكل تهديدا ما! وفي مواجهة هذا النموذج السائد، ينتفض المستبعدون بطرق مختلفة _أحيانا عنيفة_ لتكسير دائرة الإلغاء، ولكن بواسطة التشبث بمطالب هوياتية باسم اختلاف ذي تلوينات لغوية أو دينية مثلاً. هكذا يعبر المستبعدون والمستضعفون عن وجودهم مطالبين بالاعتراف. إنهم يدعون هكذا إلى احترام شرط المساواة باعتماد الحقوق الإنسانية. وفي المقابل، فإنَّ الديناميات الثقافية الجارية المصاحبة للعولمة، تضع الجميع في وضعيات مُعقدة؛ ذلك أن الثقافة _ في سياق التواصل المعولم_ تنتزع الشخص من ارتهانه لما هو خاص أو محلي، وترمي به فيما يتخطى الوطن.

إنَّ التنامي التصاعدي لخطابات الاختلاف - التي غالبا ما تختلط بالتنوع - لا تتوقف عن التجذر لدرجة تحولت إلى حالات في منتهى التعقيد. فالتوسع المحموم للعولمة يدفع الفئات المهمشة والمستضعفة، والخصوصيات المكبوتة، إلى الظهور في المناقشة العامة باسم ما أسمته حنه آندرت: "الحق في أن تكون لك حقوق"، وذلك بتخطي حدود الدولة/ الأمة. وهكذا تطرح الظواهر العابرة للأوطان والمستندة إلى اللغة، أو الدين، أو الإثنية تحديات واقعية على الفكر والسياسة.

إنَّ الاختلافات التي نشهدها اليوم تعبر عن ذاتها في فضاءات منزاحة، خارج إطارها الجغرافي، وبالتالي تتشكل أنواع من التداخل والتمازج، واللقاءات العجيبة، وديناميات هوياتية يصعب القبض عليها، فوراء فكرة الاختلاف هناك تنوع هائل للمشاكل، وأنماط المنطق والتمظهرات. من هنا ضرورة اعتبار هذا التنوع لاستبعاد مختلف أشكال الفكر الأحادي، كما أن أنماط التفكير بالمعالجة السياسية للاختلافات تكون هي نفسها متنوعة.

من جهة أخرى فإن التاريخ يعلمنا كون ضحايا الحداثة، والشعوب المهملة، والفلاحين المستغلين، والعمال المطرودين أو الذين تضاءلت قيمة عملهم بسبب التقدم التقني، والتجار الصغار المفلسين، كل هؤلاء يلجؤون إلى بناء نماذج هوياتية، ويعمدون إلى فبركة ثقافة ترجع إلى هويات أولية يعاد صياغتها في المتخيل اعتمادا على أرض الأجداد، ونقاء الدم، واللغة الأصلية، والماضي الموهوم. وهكذا فإنَّ تفكك كيان وطني باسم الحق في الاختلاف، أو المطالبة بالتنوع، مهما كانت مشروعيتهما، وتفتت الأسس المشتركة لبلد ما، قد ينتج عنه فتح باب جهنم، وتفجير نزوعات الموت. في هذه الحالة، يتوقع تعريض مقومات العيش المشترك إلى الخطر والتهديد، ومن ثم يمكن للتشنج الهوياتي باسم تنوع ما، أن يولد أسباب الخصومة والفتنة والمحنة.

ومع ذلك، فإنَّ التأكيد على اعتبار التنوع الثقافي محرك الإنسانية، تأكيد صائب، وهو ما يمنح المعنى لمختلف أشكال التبادل بين الناس. لكن كلما ذهبنا بهذا بعيدا، كلما تبين لنا بأن أسس الدولة، الأمة/ السيادة، أصبحت معرضة للتهديد والهشاشة. وإذا كان التنوع فعل اعتراف عظيم، فإنِّه من الممكن أن يتحول إلى فخ حقيقي، خصوصاً وأنه أصبح "لازمة مضللة، تنسحب على وقائع ومواقف متناقضة".

وعلى الرغم من الحركات النازعة إلى العولمة، فإنّ العالم - أو بعض المناطق من العالم- يبدو أنه أصيب بفيروس القبلية، باسم الاختلاف أو الحق في التنوع. فالأحداث التي يتفرج عليها العالم يوميا قاسية للغاية. فسيفساء لامحدودة من الآثار، والرموز والخصوصيات تطالب بالحق في أن تكون لها حقوق، والخطاب الحالي حول التنوع يمنحها هذا المشروعية والمناسبة.

إن المجتمعات المعنية بذلك، مطالبة بالاشتغال على ذاتها، ومعالجة هذه التعبيرات بالبدء بالاعتراف بها، وتحويل احتمالات السقوط في الغمة باستدعاء عوامل تحرك التفاعل والإبداع، وأخذ الكلمة، وذلك بضمان شروط العدالة والمساواة في كل المستويات، قصد محاصرة أصوليات الاختلاف أو التنوع التي تقاوم التثاقف الجاري في العالم ، وتدعو إلى الانغلاق مختلفة، وخالصة وجيدة بالضرورة.

لقد لعبت منظمة اليونسكو دورا كبيرا في الترويج لمصطلح التنوع، وذلك في سياق استراتيجي استهدف مقاومة الأبعاد الهيمنية للعولمة، وأكد على أهمية سيادة الدول وخصوصياتها الثقافية؛ لكن لم تكن هذه المنظمة لتتوقع الاستعمالات المختلفة والمتضاربة لهذا المصطلح في الصراعات الخاصة التي تنفجر هنا وهناك باسم التنوع حتى داخل مجالات البحث في العلوم الإنسانية.

 

 

على الرغم من الاستعمال الواسع للفظة "التنوع"- لأنه مجرد لفظة وبعيد عن أن يتضمن حمولة مفهومية - فإن هناك اختلافات عميقة في الفهم والأهداف التي تحرك المستعملين لها. لذلك يدعو بعضهم إلى استبعادها إذا كانت ستصير سببًا في انقسامات في السياسة والاجتماع والثقافة، دون إغفال بأن وحدة بلد ما، لا تمنع إطلاقا من التفكير في الاختلافات المكونة لها. لكن المناقشات حول التنوع لا تفيد بأن هذه المعادلة تبدو بديهية بالضرورة؛ ذلك أنه كيف يمكن الاحتفال بالعرق والانتماء الإثني في الوقت الذي يتعين فيه النضال ضد كل أشكال التمييز؟ وكيف يمكن احترام الاختلافات وتجنب الدعوة إلى الانفصال الثقافي في الوقت نفسه؟ وهل الدعوة إلى الحقوق الثقافية لا تتنافى مع القيم المؤسسة للدولة الوطنية؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة _في تصور الكاتب_ يكثف الرهان الحقيقي لبيداغوجيا التسامح ولسؤال القيم، ويبدو أنه رهان صعب في زمن تزداد فيه أصولية السوق تشددا وشراسة، والتي لا تترك للثقافات الأخرى أي هامش آخر للتعبير عن اختلافها سوى الارتكاس إلى أصولها العتيقة والعودة إلى ما يشكل ذاتيتها الدفينة. ويظهر على أنه بالرغم من هذا الاحتقان الثقافي الحاد فإن التفكير في ما هو إنساني حاجة وجودية وانفتاح ممكن، دون سلب درامي للذات أو تماهٍ وهمي مع الآخر، ودون استجداء ثقافي أو رفض عصابي آخر.

 

 

أخبار ذات صلة