طنطا.. عروس الدلتا

منال المعمرية

طنطا.. المدينة المصرية العريقة التي لم يكتب عنها صلاح عبدالستار الشهاوي سوى القليل اليسير من ملامحها وتفاصيلها، في مقاله الذي نُشر بمجلة "التفاهم"، والذي من خلاله تجول بنا في شوارعها ودهاليزها، وبين أبنيتها وأطلالها، وسرد بعضا من التاريخ الذي عبرها ولم يعبر غيرها من مدن المعمورة. واصفاً إياها بزهرة وادي النيل وعروس الدلتا، وكيف لا، وهي تتربع في وسط دلتا النيل بكامل زينتها وأبهتها وجمالها، مُنافسةً بذلك مدينة الإسكندرية شمالا، والقاهرة جنوبا.

تُعتبر طنطا عاصمة المحافظة الغربيّة ومركزها الإداري؛ فمن الشَّمال تحدها محافظتا كفر الشيخ والمنصورة، ومن الجنوب تحدُّها مدينة شبين الكوم، ومن الشرق تحدها مدينة الزقازيق، ومن الغرب مدينة دمنهور، فهي في منطقة وسطية تربط محافظة الغربية مع المدن المذكورة، وتعد ملتقى مهمًّا للطرق الحديدية والبرية، وتربطها بأنحاء البلاد شبكة مواصلات جيدة.

شغلت هذه المدينة حيزا كبيرا من كتب التاريخ، والتمع اسمها مرارا في كتابات المؤرخين عبر الزمن. ومن هنا، فقد أورد الكاتب عددا من الاقتباسات التي تعكس عراقتها. حيث وصفها المؤرخ الإغريقي هيرودوت بأنها "شاسعة، وتستحق الإعجاب". أما العالم الأثري الفرنسي ج.ف شامبليون -مكتشف حجر الرشيد- فقد قال في وصفها: "لم نكد نقترب من تلك الأسوار العالية العتيقة ذات البوابة التي انهارت حديثا، لم أستطع قياس مدى التأثير الذي شعرت به بعد أن تجاوزنا تلك البوابة، ووجدنا تحت ناظرينا كتلا هائلة بارتفاع 80 قدما، إنها صخور متشابهة تهشمت بفعل الصواعق أو الهزات الأرضية". كما ذكر مانيتون -المؤرخ المصري القديم، الذي قام بكتابة تاريخ مصر بتكليف من بطليموس الثاني، اعتمادا على الوثائق المصرية القديمة الموجودة في المعابد المختلفة- أن المدينة العتيقة كانت عاصمة للإقليم الثاني عشر من أقاليم الدلتا، إلى أن غدت عاصمة الدولة بأسرها أيام الأسرة الثلاثين من عام 278-241 قبل الميلاد، وفيها حكم مصر ثلاثة من الملوك الفراعنة، هم على التوالي: نختبو الأول، ثم تيوس، ثم نختبو الثاني.

وكما تعدد الوصف تعددت المسميات، فلا ريب أن مدينة مثل طنطا احتضنت عدة حضارات، تحولت أسماؤها وتباينت بمرور الوقت. فمنذ آلاف السنين، أطلق الفراعنة عليها اسم (تناسو)، وفي القرن الرابع قبل الميلاد أسماها الإغريق (تانيتاد)، ولما آلت مصر إلى الرومان عرفت باسم (طنتثنا)، وفي العصر البيزنطي قبل الفتح الإسلامي أطلق عليها (طو)، وكان اسمها القبطي القديم (طنيطاد)، ولما فتح المسلمون مصر عام 641م، حُرف الاسم إلى (طنتدا).

مما يعني أن هذه المدينة قد جمعت بين أطرافها ثروة أثرية نادرة من التاريخ المصري القديم، فحظيت بالعديد من الآثار الفرعونية، والقبطية، والإسلامية التي جعلت منها مركزا إسلاميا من أهم المراكز في عالمنا المعاصر، إضافة إلى العديد من المزارات السياحية.

وتتجلى الآثار الفرعونية خصيصا في معبدي صالحجر وبهبيت الحجارة، والذي يعرف أيضا باسم "بر-حبيت"، ويعني بيت الأعياد الذي اعتبر مقرا لعبادة الآلهة إيزيس، وتتضح أهميته من خلال الأحجار الجرانيتية الضخمه بمختلف أنواعها التي تم بناؤه بها، وقيمته التاريخية باعتباره من أهم رموز الحضارة المصرية القديمة، إضافة إلى تميزه بجمال نقوشه التي تمثل العديد من الطقوس الدينية المختلفة، والتي يقوم بها الملك أمام ربة المعبد "إيزيس"، سيدة حبيت. وقد استغرب علماء الحملة الفرنسية من وجود بعض المعابد المبنية بأكملها بالمواد المستخرجة من أحجار أسوان في بهبيت الحجارة، وأرجعوا ذلك إلى فكر وذكاء قدماء المصريين في العظمة والخلود التي كانت رائدهم دائما في تصميم مبانيهم الكبيرة ومنشآتهم العظيمة. فقد كانوا يعرفون أن الحجر الرملي أو الجيري لا يعمران طويلا إذا ما تعرضا للهواء أو لمياه البحر؛ لذلك استخدموا الجرانيت الذي جلبوه من أسوان في معابدهم ومبانيهم المهمة في الدلتا. إلا أنه، ومن خلال بحث سريع في شبكة الإنترنت، وجدت أن هذه المعابد تعاني حاليا من قلة السياح، إضافة للحشرات والمياه الجوفية والحشائش التي تتسبب في زيادة الشروخ، وإنتاج بقع لونية ناتجة عن العصارة، مسببة تلفا كيميائيا وفيزيائيا للحجارة ونقوشها؛ مما يستدعي تدخلا سريعا لإعادة بناء وإحياء وترميم هذا الأثر، الذي يعد أعظم آثار الدلتا والوجه البحري قاطبة.

وقد أكد العالم الأثري فوكارت عام 1893-1894م، أن الدلتا كانت مليئة بالأماكن الأثرية والتلال، لكنها اختفت بمرور الزمن، لوجود قصاص السباخ في الماضي؛ مما أضاع فرصاً كثيرة على علماء التاريخ والآثار، فضلاً عن تسرُّب ما كان يعثر عليه من آثار للخارج، وصعوبة القيام بحفائر منظمة بالوجه البحري لقرب مستوى المياه الجوفية من سطح الأرض، مما أصاب الآثار الموجودة التي لا تحتمل الماء والرطوبة بأبلغ الأضرار.

وعلاوة على ما ذُكر، فإن طنطا أيضًا تضم أثرا كنسيا يعود تاريخه للقرون الأولى الميلادية -كنيسة السيدة العذراء بالصاغة، والتي تمتاز بروعة تصميمها- كما يوجد فيها مقام ومسجد العارف بالله السيد أحمد البدوي، ومكتبة المخطوطات التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري.

وفي هذا الصدد، ذكر الكاتب بعضًا من التغييرات التي طرأت على مدينة طنطا في عهد الخديوي إسماعيل الذي شملها بعنايته الخاصة، فأمر بإجراء عدة تنظيمات فيها، بما في ذلك توسيع الحارات، وفتح الشوارع المستقيمة، ورتب لها لأول مرة مهندس تنظيم وحكيم صحة، وفتح بها عدة شوارع ذات اتساع واعتدال، كما بنيت في عهده أبنية فاخرة وعمائر جليلة وعدد من القيساريات، وفي وسطها وفي جميع جوانبها حوانيت وخانات وفنادق، كلها مشحونة بالمتاجر والبضائع الداخلية والخارجية والحرف التي لا تقف عند حد، وكان بها أبورات وبساتين وأسواق وأضرحة للكثير من الأولياء، وقصور مشيدة ذات شبابيك من الحديد والزجاج والخشب المخروط، وأعظم مساجدها مسجد السيد أحمد البدوي -رضي الله عنه- لا يفوقه في التنظيم وحسن الوضع والمعمارية أي مسجد.

نساء طنطا:

كانت سيدات العائلات والطبقة الراقية في طنطا عندما يخرجن من المنزل يتدثرن فوق الفستان بدثار كبير فضفاض يسمى توباً أو (سبلة)، يكاد عرض كُميه يعادل طوله، وهو من الحرير القرنفلي أو الوردي أو البنفسجي، ثم يضعن بعد ذلك البرقع الأبيض على الوجه، وكان عبارة عن قطعة طويلة من الموسلين الأبيض يحجب الوجه كله ماعدا العينين، وتسقط حتى القدمين، ثم يرتدين (الحبرة) وحبرة السيدة الطنطاوية المتزوجة من الحرير الأسود اللامع، أما الآنسات فكن يرتدين حبرة من الحرير الأبيض أو شالاً، وكانت سيدات الطبقة الوسطى والعامة يلبسن بدلاً من الحبرة إزاراً، وهو قطعة بيضاء من نسيج القطن على شكل الحبرة ويلبس مثلها تماماً.

طنطا سياحيا:

تتعدد السياحة في مدينة طنطا من ترفيهية مثل (مسرح مدينة طنطا، وحديقة الأندلس)، إلى دينية (مسجد الشيخ أحمد البدوي، وكنيسة الأقباط الكبرى)، وأثرية (متحف آثار وسط الدلتا).

كما تشتهر طنطا ببواباتها؛ إذ إن لها عدة بوابات كانت تغلق على أهلها مساء كل يوم، منها واحدة في نهاية درب الأثر من ناحية البورصة؛ حيث كان شارع البورصة أرضاً زراعية تعتبر الحد البحري للمدينة، وبوابة في نهاية درب الملاح، وثلاثة في نهاية شارع البوستة القديم؛ وذلك على غرار بوابات القاهرة الشهيرة.

أما بالنسبة لأهم شوارعها؛ فشارع البحر (الجيش سابقاً)، وشارع الجلاء، وشارع النحاس، وشارع سعيد، وشارع المديرية، وشارع علي مبارك.

كانت هذه بعضا من معالم المدينة التي لا يتسع المقام للإسهاب فيها، فضلا عن سرد حكاياتها الكثيرة وحيواتها الزاخرة.

أخبار ذات صلة