منال المعمرية
يَفتتح طلال أسد مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" ببعض الآراء والانطباعات السلبية السائدة حول والده المفكر محمد أسد، إبان حياته، والتي كرسها في دراساته المتعمقة للإسلام، إضافة إلى عمله على مشروع إقامة وتأسيس دولة إسلامية مستقلة، وأعماله الفكرية التي تخص الإسلام الموجهة للغرب؛ إذ اعتبر محمد أسد أحد أكثر مسلمي أوروبا في القرن العشرين تأثيراً.
وكان مما يشاع عن محمد أسد أن هدفه الأول هو لبرلة الإسلام وبناء الجسور بين الإسلام والغرب. إلا أن طلال أسد، وعبر هذا المقال، والذي كان سابقا ورقة مقدمة للمؤتمر العالمي بالرياض المنعقد في العام 2011، سعى إلى أن ينفي هذه التهم، وأن يعرض الأفكار الرئيسية والرؤى التي سيطرت على فكر والده محمد أسد؛ وذلك بحياد موضوعي تام يتسم بالرصانة والجدية.
يقول طلال أسد: " كان والدي مفكرا دينيا، ولم يكن رجل سياسة، وقد عد القرآن والسنة الركنين الأمثلين للهداية والحياة الإنسانية الرشيدة....، إن أول وأهم فكرة في رؤية والدي للإسلام أن الدخول إليه يعتمد على العقل؛ لذا فإن الحِجاج ضروري للدخول في الإسلام وللبقاء فيه. وعندما كنت صغيرا اعتاد والدي على القول لي: إن على الواحد منا أن يتعامل مع المؤمن وغير المؤمن ليس بالعنف بل بالحسنى، وهذا الذي عناه القرآن بقوله: "لا إكراه في الدين". ويتابع الوالد بأن القرآن الموحى من الله سبحانه يدعو البشر إلى دينه بالعقل، وعندما نقرأ القرآن قراءة متأنية نلاحظ أنه يخوض جدالات ويثير الأسئلة باستمرار؛ لأنه بهذه الوسيلة يدفع السامعين للإصغاء والتقدير."
فبالنسبة لمحمد أسد، فإن العقل مركزي عند المسلمين، ليس فقط في الطريقة التي كانوا يتوجهون بها إلى غير المسلمين، بل وفي الطريقة أو النهج الذي ينبغي أن يتعاملوا به فيما بينهم، خاصة في معالجة الخلافات والنزاعات، وسواء أكان ذلك في الشأن العام أو الشؤون الخاصة. ومن وجهة نظره فإن الخلاف الواسع أو العميق لا ينبغي أن يدفع المتخاصمين من المسلمين أو يؤدي إلى تكفير أحدهما الآخر؛ بل ينبغي السلوك في النزاعات مسلك الإصرار المنضبط الذي يحترم فيه كل طرف قرينه عندما لا يكون ممكنا التوصل لاتفاق. لذلك؛ فهو يقتبس مراراً الأثر المنسوب للنبي -صلى الله عليه وسلم: اختلاف علماء أمتي رحمة. وقد اختلف هو نفسه اختلافا بارزا مع عدد من العلماء والمثقفين المسلمين، بشأن الفهم الصحيح لمسائل عَقَدية إسلامية وأخرى في الممارسة؛ لكنه ظل دائما يكره التعصب والتشدد والغلوّ في الدين، ثم إنه كان يكره التصرفات الشائنة التي تُرتكب باسم الحرص على الدين، سواء من جهة العامة والغوغاء، أم من الأفراد من جهة الدولة. فالفرد يكون مسلما إذا أعلن ذلك، أما الجدية أو عدمها فهي أمر بينه وبين الله وحده.
ومن هذا المنطلق، فإن محمد أسد يؤكد أن الإسلام ليس دين عنف كما يزعم الغرب، وأن المسلمين لم ينشروا دينهم بالإكراه وبالقوة -باستثناء حالات قليلة لا تنقض القاعدة. والتعبير الأحدث عن هذا الزعم نجده في محاضرة البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر بجامعة رجسنبورج عام 2006، والتي ادعى فيها أنه في حين يقع العقل في المركز لدى المسيحيين في التاريخ، فقد كان غائبا في التاريخ الفكري للإسلام، وهذا هو السبب الذي جعل الإسلام يعتمد على القوة والعنف. وهذا ادعاء كاذب!
لقد أثار محمد أسد قضية ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، والتي أسسها على العقل. فبالنسبة له، فإن الأخلاق والقانون هما شيء واحد. فقد كان يعتقد بأن الدولة لا بدّ أن تبنى على أسس دينية؛ وذلك لأن الدولة هي وحدها التي تستطيع أن تعطي القانون الإلهي القوة التي يحتاجها، وشرع الله (إرادة الله) هو مصدر القيم الأخلاقية كلها ومصدر السعادة. وهنا يأتي السؤال المقلق: هل من الممكن لغير المسلمين أن يعيشوا أخلاقيا في دولة إسلامية؟
ويرى محمد أسد أن غير المسلمين ينبغي أن يتمتعوا بالحماية الكاملة؛ لكنهم لا يستطيعون تقلد مناصب سامية في الدولة، وأن هذا الأمر لا يعد تمييزا أو معاملة غير نزيهة؛ بل إن في ذلك اعترافا بأن "غير المسلمين لا يجب أن يكونوا مُوالين تماما للدولة"، التي تحمل أيديولوجيا تختلف عن تلك التي يحملونها أو يعتقدونها. وبعبارة أخرى، فإنه من حق الدولة على مسؤوليها الكبار مطالبتهم بالولاء الكامل لمقتضياتها ومصالحها، كما أنه يكون على أولئك المسؤولين أن يَأمنوا طاعة وخضوع الرعايا استنادا لاعترافهم بشرعيتهم. ولأن غير المسلمين غير قادرين على أداء هذين الواجبين؛ يكون من الضروري الاعتراف بعدم قدرتهم على تولي المناصب الكبيرة والحساسة في الدولة.
وفي هذا الجانب، فإن طلال أسد ينتقد وبشدة هذا التوجه الذي ذهب إليه والده. حيث يبدأ النقاش بالتأكيد على أن مطالبة الدولة لرعاياها أو مواطنيها بالولاء المطلق، ظاهرة حديثة، فهي تعود إلى عصر الدولة الوطنية. أما في الأزمنة ما قبل الحديثة؛ فإن المطلوب كان ولاء النبلاء والجنرالات والحكام وليس عامة الناس. وسبب إصرار الدولة على الولاء الكامل، هو خوفها من الأعداء الخارجيين من الدول المعادية والأعداء الداخليين من الخونة؛ لذلك نجدها تشدد على الوحدة. وعندما لا يتم الالتزام بمبادئ الولاء والطاعة؛ فإن الدول الوطنية تلجأ إلى القوة في الإخضاع بشتى السبل والأساليب؛ بغضّ النظر عن الاختلاف أو التفاوت. وبالطبع، ليس كل شيء ظهر في الأزمنة الحديثة جيدا وإيجابيا. إن الدولة الليبرالية الحديثة هي مناط الخير العام من جهة، ولكنها مصدر محتمل للقسوة والقمع. فعندما تخاطب الحكومة المواطنين فإنها لا ترجوهم، بل تعاملهم بإمرة القانون، من أجل "تحقيق الصالح العام"، وهي قادرة على معاقبتهم إذا عصوا أو خالفوا. احتكار الدولة للعنف من جهة، وسيطرتها على البيروقراطية من جهة ثانية، هما الأمران اللذان يعطيان الحكومة سلطة هائلة، لا يمكن أن تجتمع للمواطن الفرد. صحيح أن الدولة الليبرالية العلمانية تحمي حق المنشقين في الاعتراض؛ لكن ليس هناك دولة من خلال حكومتها تسمح بالتجاوز عليها وعلى قوانينها تحت أي اسم؛ لأن في ذلك تهديدا لوجودها المقدس.
هذا هو الولاء المطلق الذي دعا إليه محمد الأسد، والذي لم يتواجد أساسا في التقليد الإسلامي السلفي!
فنتيجة غياب نظرية السيادة في التقليد الإسلامي؛ فإنه سواء كانت الدولة تحتضن أيديولوجيا دينية، أو علمانية، وسواء كانت تدعي تمثيل الله سبحانه، أو تقول بالسلطة الدنيوية العادية؛ فإنها لا تستطيع أن تطلب من مواطنيها ولاءً مطلقا. وهناك بين القائلين بالدولة الإسلامية اليوم من يؤكدون على أن الله يملك السيادة أو الحاكمية فيها. إنما وبحسب الرؤية القرآنية؛ فإن كل شيء في هذا الوجود يقع تحت قدرة الله ومشيئته، فكيف يكون بوسع الدولة، وهي تركيب اجتماعي، أن تطلب من مواطنيها الولاء المطلق؟! فالدولة في الإسلام لا تستطيع أن تتكلم كما يتكلم الله؛ إنها مخلوقٌ وليست خالقاً.
في حين يقول محمد الأسد بأن الرعايا غير المسلمين لا يستطيعون أن يعطوا الدولة الإسلامية ولاءً مطلقاً، فإن طلال يؤكد أنهم يستطيعون ذلك؛ بل ذهب إلى أن فكرة الولاء المطلق في الإسلام تبقى غريبة.
وفي تصور الدولة الإسلامية التي أرادها محمد أسد، فإن غير المسلمين لهم حق الاختلاف، والذهاب إلى معارضة الحكومة علنا. ولكن السؤال هنا: إلى أي حد يستطيع غير المسلم معارضة حكومة إسلامية قائمة، هي بالمعنى الضيق ليست حكومته هو؟ وهذا الأمر لا يتعلق ببساطة بالخوف؛ بل يتعلق بالمشاركة. فالدولة الإسلامية -حسب هذا التصور- ملزمة بحماية غير المسلمين، بما في ذلك إعطاؤهم حرية التعبير وحرية الإيمان والعبادة. لكن الالتزام بحماية كل أحد وحقوقه على قدم المساواة، لا تعني الحق بالمشاركة بالتساوي في الحياة العامة.
