عبدالله العلوي
يحكي لنا التاريخ العربي والإسلامي مراحل تطور الدولة الإسلامية عبر حقبها المختلفة، ومدى الآثار الإيجابية والسلبية التي أنتجها خلال فتراتها المتلاحقة، فالإسلام بدأ من مكة، وعانى الرسول الكريم في توصيل رسالته للإنسان المكي وللعالم عامة، فكُتب السيرة تذكر القصص الكثيرة حول هذه المعاناة، حتى أذِن الله له بالهجرة إلى يثرب لبناء دولة متكاملة تقوم على أسس دينية وسياسية، ونجح في بناء الدولة الإسلامية بأركانها المختلفة فكان لها الشأن الكبير على المستوى العربي والعالمي، وبدأت الدولة في التوسع والسيطرة على المناطق المختلفة خاصة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقد وصلت الدولة الإسلامية إلى بلاد الشام وفارس وبلاد الروم والعراق ومصر والمغرب العربي والأندلس حتى وصلت مشارف بلاد بيزنطية، ولم يهمل الخلفاء الإسلاميون النهضة العلمية والثقافية في الدولة السياسية، فهم يعدونها أساسا لا يمكن الاستغناء عنه، فظهرت المكتبات، واهتم الخلفاء في الدولة الأموية والعباسية وما لحقتها من الدول في المشرق والمغرب بالعلوم، فكان لهم الدور الأمثل في نهضتها وتطويرها، منها ظهر علماء في مجالات العلوم المختلفة، وقد اضطلع العلماء في مجالاتهم، وظهرت بذلك الكتب والمؤلفات، وهنا نشير إلى عالم كان له التأثير الكبير على المستوى الشرقي والغربي ألا وهو عبدالرحمن ابن محمد المشهور بكنيته وهي "ابن خلدون"، وإن أهم ما كتب ابن خلدون هو كتابه المشهور "المقدمة" فقد جمع فيها فنونا وعلوما مختلفة خاصة التاريخ وعلم الاجتماع، ونعرج هنا على "علم الجغرافيا" في مقدمته، وهناك من المهتمين بعلم الجغرافيا من أعطى "مقدمة ابن خلدون" أهمية عظيمة لدراسة هذا العلم، خاصة جغرافية العالم الإسلامي، ومن هؤلاء الدكتور/ إلياس بلكا في مقاله "جغرافيا عالم الإسلام في فكر ابن خلدون"، المنشور في مجلة التفاهم.
لقد ظهر الكثير من علماء المسلمين الذين اهتموا بعلم الجغرافيا أهمها على سبيل المثال لا الحصر، الإدريسي وابن حوقل والاصطخري وياقوت الحموي وغيرهم من العلماء، فذهبوا إلى تخيل عام للخارطة العالمية، ومنهم من وضع اهتمامه فقط على العالم الإسلامي ومنهم من اهتم بجغرافية السكان، والجغرافيا السياسية، ويمكن أن نقول هذا الاهتمام نابع من الرغبة الدينية سواء من خلال حث القرآن في آياته على التأمل والتفكر والسياحة، وحث الرسول الكريم على السفر، وقد لعبت الفتوحات الإسلامية دورًا كبيرًا في اهتمامهم بعلم الجغرافيا، والمسلمون يعدون أكثر أمة سابقة اهتمت بعلم الجغرافيا.
يمكن أن نرجع مصطلح "العالم الإسلامي" إلى المناطق أو الأراضي التي وصل إليها الجيش الإسلامي فيما يسمى في كتب التاريخ بالفتوحات الإسلامية في المشرق والمغرب، رغم تحفظنا على هذا المسمى، لأنّ كُنه الفتوحات يعتمد على السيطرة والاحتلال على أرض مغتصبة ليست للمسلمين سواء كانت السيطرة بالرضا أو بالاغتصاب فهو في النهاية يرجع منبعه لشيء واحد ألا وهو الاحتلال، ولا نريد الخوض في هذا الموضوع حاليًا، لأنه يحتاج إلى مقال مستقل. إذن فالفتوحات الإسلامية لعبت دورًا بارزًا في زيادة رقعة العالم الإسلامي، ورسم الخارطة الإسلامية لأراضيها، كما أنّ الهجرات البشرية للعربي والمسلم بين بلدان العالم المختلفة كان لها التأثير الأمثل في نقل الثقافة العربية والإسلامية وتشكيل العالم الإسلامي.
يمتلك العالم الإسلامي أهمية استراتيجية وجغرافية على مختلف المستويات، وأهم هذه المستويات هو المستوى الاقتصادي، فهذه البقعة من الأرض تربط تجارة الشرق بالغرب والجنوب بالشمال برا أو بحرًا، فلا تمر قافلة تجارية أو سفينة تجارية إلا وتكون إحدى محطاتها الأساسية في أراضي العالم الإسلامي، ومن أهم الطرق التجارية البرية هو الطريق المشهور بطريق الحرير والذي يبدأ من موانئ بلاد الشام مرورًا بالعراق ثم شرقًا سمرقند وبلاد السند والهند انتهاء ببلاد الصين، أما الطريق البري الآسيوي الإفريقي الذي يمر على جنوب الصحراء مرورًا بنيجيريا ومالي وانتهاء بالمحيط الأطلسي لم تكن له أهمية كبيرة، وربما نعزو ذلك إلى وعورته.
إن المسلمين لم يكونوا على دراية حقيقية بالبحر، بل لا يعرفونه لأنّ الإسلام بدأ عند عرب الجزيرة، فهم يعيشون في الصحراء، وكانوا يسمعون عنه ويروون قصصه، ورآه التجار في رحلاتهم إلى الشام والعراق، ولكن بعد احتلالهم للشام والعراق كان من الضرورة أن ينزلوا البحر، وكانت أول محاولة في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ثم توالت بعدها الدولة الأموية والعباسية في الاهتمام بإنشاء أسطول بحري سواء للتجارة أو للمعارك، وقد نهضت البحرية الإسلامية في أوقات متفرقة، وتعد الدولة الموحدة هي الدولة التي بلغت فيها البحرية الإسلامية أوج قوتها واتساعها، ويرى ابن خلدون أن الاهتمام بالبلدان المطلة على البحر كان سببًا مهمًا لبقاء قوة الدولة الإسلامية، فبعد إهمال هذه المناطق من قِبل السلطة السياسية ضعفت الدولة. من خلال ما سبق يتبين لنا أن التجارة البحرية في العالم الإسلامي لم تكن بمنأى عن ذلك، فهناك الطريق الذي يربط بجنوب آسيا، ويبدأ من الموانئ الشامية مثل ميناء البصرة مرورًا بسواحل الخليج العربي وخليج عمان، داخلًا إلى البحر الأحمر، وإلى الشواطئ الهندية، كما أنّ هناك طريقا بحريا آخر ينتهي في سواحل شرق إفريقيا.
إذن فالعالم الإسلامي يمتلك أهمية خاصة تنبع من أهميته الجغرافية، وقد استعان الأوروبيون حديثًا في حملاتهم على الشرق بهذه الأراضي فكانت معينًا مهمًا لهم في طرقهم البحرية والبرية، كما يمكن أن نقول إن العالم الإسلامي أخذ أهميته في كون أراضيه هي موطن الحضارات البشرية، فقد نشأت أغلب الحضارات البشرية في العالم الإسلامي مثل حضارة سومر ودلمون وحضارة مجان والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية والحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات، كما أنّه موطن الرسالات السماوية سواء كانت اليهودية أو المسيحية أو الإسلام.
اهتم "ابن خلدون" في مقدمته بجغرافية العالم الإسلامي، وهذا الاهتمام نابع من الرحلات المتواصلة لأراضيه المتفرقة بين المشرق والمغرب، بعيدًا عن كونه شارك في الحكم على مر حياته، فهو زار أغلب -إن لم يكن كل- أراضي العالم الإسلامي، فقد شارك في دخول الجيش الإسلامي إلى الأندلس، كما أنّه تولى القضاء في مصر وتونس والمغرب العربي، وشارك في حرب التصدي لجيش التتار، وبعد سقوط بغداد على يد التتار أكمل حياته في مصر ومات فيها، فعندما نأتي لنستعرض ما قاله عن العالم الإسلامي سنجد أنه وصفه وصفا دقيقا جدًا، فهو وصف السياسة ووصف المجتمع، ووصف العمران ووصف البناء، وفوق هذا كله وصف الإنسان بتفاصيله المتفرقة، كما أنه اهتم بوصف المكان والزمان، واهتم بالآداب والصنائع والاقتصاد، فتنبع أهمية ابن خلدون في اهتمامه البالغ بجغرافية السكان. ومن أهم ما وضحه ابن خلدون هو مدى تأثير القوة السياسية على كل حياة الإنسان سواء في بنائه وعمرانه وثقافته وعلمه، ولا أدل على ذلك من الخليفة العباسي هارون الرشيد، حيث بلغت النهضة العلمية في زمانه أوج اتساعها، فقد أولى العلم أهمية كبيرة جدًا، وبنى مكتبته الضخمة المشهورة بـ"دار الحكمة".
الكثير عندما يتحدث عن ابن خلدون ومقدمته يصفه بأنه عالم التاريخ والاجتماع، وهذا أمر صحيح لأنّه تعمق في هذين العلمين، ولكن في المقابل فهو عالم جغرافيا، فقد تحدث عن الجغرافيا بشكل منظم وعميق. ولقد اهتم علماء الجغرافيا بما كتبه ابن خلدون، حتى وصفه العالم الجغرافي إيف لاكوست بأنه "أول من عالج بمنهج علمي واضح ظواهر البيئة وآثارها الإيجابية والسلبية في حياة الشعوب.." وقد استفاد الجيش الفرنسي من مقدمته في احتلال بلاد المغرب العربي، فتمت ترجمتها عدة مرات إلى اللغة الفرنسية، واهتمامه ينبع من وصفه للمجتمع المغربي بشكل دقيق جدًا، وما هذا الاهتمام الكبير بهذه الشخصية إلا لأهميتها وأهمية مقدمته التي جمعت علوما مختلفة.
