التراث مُتهمًا في محكمة القبول والرفض والإنصاف

عبدالله العلوي

 يُعد مفهوم التراث من المصطلحات التي أحدثت تبايناً واختلافاً في فهمه وتفسيره وتأويله ودراسته بين الأوساط الفكرية والفلسفية والثقافية العالمية عامة والعربية خاصة، فمنهم ناقد للتراث ونافٍ لحقه، ومنهم مقدس للتراث وجاعله في برج عال، ومنهم من جعله في ميزان الخطأ والصواب نأخذ منه الصالح ونرمي الطالح، وكل هذا التباين الحاصل بين العُلماء سببه النظرة الجانبية للتراث، وطريقة التعامل معه، ومن ذلك ما نراه في مقال الدكتور "الحسان شهيد" في مقاله "مفهوم التراث في الفكر الإسلامي"، فقد حاول أن يبرز نظرة العلماء المسلمين وتصنيفهم للتراث الإسلامي، وما يتضمنه التراث وما لا يمكن أن نطلق عليه تراث.

اتفقت معظم المعاجم العربية في تعريفها لمصطلح التراث لغويًا، فقد أرجعته إلى الفعل ورث يرث إرثًا وميراثًا، وهو ما ورثه بعضهم عن بعض، بينما وجدنا تمايزا وتغايرا في التعريف الاصطلاحي عند علماء ومفكري الشرق والغرب، فبعضم يقول بأن التراث هو عبارة عن "الخصائص البشرية العميقة الجذور"، وعرفه آخر بأنه: "شكل ثقافي يُتناقل اجتماعيًا، ويصمد عبر الزمن"، ولعلني أجد التعريف الذي أورده الدكتور/ عبد العزيز التويجري في مقاله "التراث والهوية" تعريفًا شاملًا، فقد جاء التعريف نصه: "هو كل ما وصل إلينا مكتوبًا في علم من العلوم، أو محسوسًا في فن من الفنون، مما أنتجه الفكر والعمل في التاريخ الإنساني عبر العصور المختلفة"، فالتعريف شمل كل التراث الإنساني بكافة أنواعه، المادية أو المعنوية، فقد شمل التراث الديني والثقافي والأدبي والفني والفلكلوري والعلمي والعمراني والحضاري.

إنَّ التراث في كل أمة يعد من الضروريات لتقدم الأمم، فعدم الاهتمام بالتراث هو عقم في مستقبل الأمم، فهو له أهمية مستقلة ثمينة وعظيمة، يعطيها الشخصية الاعتبارية بين الأمم الأخرى، وهو بمثابة الأصل لأي ثقافة أو مجتمع بشري، وقديمًا قيل: "من لا ماضي له لا حاضر له"، إذن فلابد للإنسانية أن تهتم بتراثها، وأن تعتز به، وأن تحافظ عليه من الانهدام، فطمر التراث يُعد من أبشع الجرائم النكراء، فهو في محل الفناء للأمة الواحدة. وللأسف أن بعض المجددين من الشرق والغرب ينادون بطمر التراث كاملًا دون تمحيص وتمييز، وهذا خطأ فادح يجب أن تنتبه إليه البشرية، "ولا يوجد تعارض بين الاتجاه للمستقبل والمحافظة على التراث، بل التركيز على التراث كقاعدة، إنما يجعل النظرة إلى المستقبل أكثر قوة ووضوحًا"، وهنا أستعين بمقولة للزعيم الهندي جواهر لال نهرو نقلها الدكتور/ عبد العزيز التويجري في مقاله السابق، حيث يقول: "إن علينا أن نتطلع إلى المستقبل، وأن نعمل له جاهدين، وأن نحتفظ في الوقت نفسه بتراثنا الماضي ماثلًا أمامنا لكي نستمد منه القوة والعزيمة، وخير مستقبل لنا هو ما كان قائمًا على الحاضر والماضي على السواء، أما أن نتنكر للماضي أو ننزع أنفسنا منه، فمعناه اقتلاع أنفسنا من تربتنا، فنخرج منها وقد يبس عودًا وجفَّ ما فيه من عصارة الحياة الحقة".

التراث هو تراث الإنسان لا تراث الدين ولا تراث حقبة معينة من الزمن أو تراث بقعة معينة من الأرض، فهذا الفهم يجعل التراث عقيمًا محتكرًا منغلقًا على نفسه وذاته، فالإنتاج الإنساني هو من حق الإنسان أيًا كان دينه ولغته وتوجهه، ولجميع البشر الحق الكامل في الحصول عليه وقت ما أراد وفي أي مكان يريد، فلا دخل لدين ولا لغة أو منهج فكري في منعه عن البشر، فيحق للمسلم أن يطّلع ويتناول ويبحث ويناقش ويدرس وينقد إرث الحضارات المختلفة بكافة أنواعه، وعكسه صحيح، ولا يحتاج ذلك إلى تبرير، فالعلم لا يبرر أبدًا، يقول الكاتب الألماني ستفان ليدر: "العلم لا يبرر، ومن يهتم بالدراسات العربية والإسلامية - وإن كان غير عربي – ومن يهتم بالتاريخ الأوروبي – وإن كان عربيًا- لا يحتاج إلى التبرير، لأنَّ التراث البشري ليس حكرًا على أحد".

إن التراث العربي والإسلامي يعد من أهم الموروثات العلمية الضخمة، التي أنعشت المكتبات العالمية والعربية في أوانها وإلى وقتها الحاضر، ولم يقتصر أثرها الكبير على المجتمع العربي بل كانت إحدى أهم النوافذ التي استعان بها الغرب في نهضتهم الحديثة، فعندما كانت الحواضر الإسلامية في أوج اتساعها علميًا وثقافيًا في كل العلوم دون اختلافها كانت أوروبا منغمسة في وحل الظلام والغيبوبة، مما كان لبعض ملوك أوروبا أن يرسلوا أبناءهم لتدريسهم في الحواضر الإسلامية، وأخص هنا الفترة بين الدولة الأموية بالأندلس وحتى سقوط الدولة العثمانية بتركيا حاليًا، وما ظهور ظاهرة الاستشراق في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلا دليل على الاهتمام الملحوظ للمفكرين الأوروبيين بالحضارة الإسلامية، والثقل الكبير للتراث العربي والإسلامي، فقد تناولوه بالشرح والنقد والدراسة، سواء كان بنظرة حاقدة تعصبية أو بنظرة توسطية منصفة، كما أنّ حث بعض المستشرقين المسلمين على الحفاظ على التراث هو دليل آخر على أهمية التراث العربي والإسلامي عندهم، ومن ذلك قول المستشرق الفرنسي جاك بيرك: " إن مستقبل العرب يتمثل في إحياء الماضي، لأنَّ المستقبل في كثير من الحالات هو الماضي أو الحاضر الذي وقع إحياؤه وعيشه من جديد".

يختلف علماء المسلمين في تميزهم لتراثهم الإسلامي، وهم هنا ينقسمون إلى اتجاهين: الأول: من يقول إن الإنتاج العقلي والبشري في الإسلام هو الذي يمكن أن نقول عنه تراث فقط، أما ما جاء به الوحي فلا يمكن اعتباره من التراث، يقول الدكتور محمد عابد الجابري: "لقد أكدنا مرارًا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث، وهذا شيء نؤكده..، وفي الوقت نفسه نؤكد أيضًا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن سواء كظاهرة قرآنية بالمعنى الذي حددناه، أو كأخبار وأوامر ونواهٍ هي كلها تراث، لأنها تنتمي إلى ما هو بشري"، فهذا الاتجاه ينزه القرآن والسنة في أن يدرجها ضمن التراث لقداسة كتاب الله وسنة نبيه، أما الاتجاه الآخر فهو يعُد كل ما جاء به الإسلام تراثًا سواء عن طريق الوحي أو عن طريق العقل البشري، يقول أكرم ضياء العمري: "فالتراث الإسلامي هو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وصناعات وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادة، ومن ثم فلن يقتصر التراث على المنجزات الثقافية والحضارية والمادية، بل يشمل الوحي الإلهي –القرآن والسنة- الذي ورثناه عن أسلافنا"، ونرى بأن إخراج الوحي من التراث الإسلامي لا يضعف من قدسيته، فهو يعد تراثًا لأنه خلفه الجيل السابق للأجيال اللاحقة، ولولا الجيل السابق ما وجدنا هذا التراث، كما أن هناك الكثير من الأحاديث النبوية تحتاج إلى جعلها في ميزان الصحة والكذب.

إنَّ ظاهرة تقديس التراث ظهرت في العصور الأولى من الإسلام، وتعصبهم للشعر القديم على المحدث، حتى وصل ببعضهم رفض الحديث ولو كان يشبه القديم في جودته وإتقانه، يقول الجرجاني في كتابه الوساطة: "وما أكثر من ترى وتسمع من حفّاظ اللغة، ومن جلة الرواة من يلهج بعيب المتأخرين، فإن أحدهم ينشد البيت ويستحسنه ويستجيده، ويعجب منه ويختاره، فإذا نسب إلى بعض أهل عصره وشعراء زمانه كذّب نفسه، ونقض قوله، ورأى تلك الغضاضة أهون محملًا، وأقل مرزأة من تسليم فضيلة لمحدث، والإقرار بالإحسان إلى مولد"، وهذا أمر في غاية الخطورة، إذ ربما يمكن أن نقدس نصوص الوحي، ولكن كيف نقدس قول بشر؟، وأعجبني قول أحد علماء عمان حيث يقول: "التراث فيه الغث الذي يجب تركه ودفنه، ويوجد ما يمكن مناقشته وتمحيصه، وهناك ما يمكن أخذه على وجه العموم، فكله في نهاية المطاف إنتاج بشري، يصيب فيه الإنسان ويخطئ"، ويُرجع بعض المفكرين سبب ظهور الجماعات الإرهابية في الوطن العربي إلى تقديس التراث رغم الخطأ المستفحل في كتب الكثير من العلماء فيما نقلوه من أحاديث كاذبة عن النبي محمد، أو فيما أخذوه في فهم خاطئ للإسلام، فبنوا بذلك أفكارًا كان لها الدور الأساسي للاعتقاد بها، والسير فيها، ومن ذلك أفكار القتل والتغريب والتعصب والفتن، فأخذت بها الجماعات الإرهابية واعتبروها ضربًا من الإسلام، وأنها في صميم الإسلام الذي دعا له كبار العلماء، وهذا تشويه حقيقة لتعاليم الإسلام التي جاءت بها الآيات القرآنية الصحيحة والأحاديث النبوية المتواترة.

 

 

أخبار ذات صلة