المحيط الهندي ساحة للصراعات التجارية الأوروبية

عبدالله العلوي

مُنذ بداية القرن الخامس الميلادي، بدأ التفكير الحقيقي للحملات الاستكشافية للسواحل الشرقية الآسيوية من العالم من قِبل الدول الأوروبية، وسواء كان الهدف سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو دينيًّا أو علميًّا، أو غيره؛ فالسبب الرئيس -من وجهة نظري- هو حب الاستحواذ والسيطرة، خاصة بعد علمهم بالمخزونات الاقتصادية العظيمة التي تمتلكها تلك البلاد الشرقية من ثروات عظيمة لم يكتشفها أهل تلك البقاع بعد، بل لم تتوافر لهم الآلات والظروف التي تجعلهم ينقِّبون عن تلك الثروات الثمينة، فما كان من الأوروبيين سوى استغلال مثل هذه الثروات وترحيلها إلى بلادهم، واستثمارها الاستثمار الأمثل والمفيد لبلادهم، وقد تركَّزت كل هذه الاستكشافات في المحيط الهندي؛ لأنَّ تلك البلدان التي تطل عليه تطمر تحتها ثروة عظيمة جدًّا، وهذا ما أرادت أن توضِّحه الكاتبة باتريشيا ريسُّو في مقالها بمجلة "التفاهم": "التنافس على الملاحة البحرية في المحيط الهندي (1550-1860م)".

لم تكن آسيا في تلك الحقبة من الزمن لُقمة سهلة يسيرة سائغة على الأوروبيين؛ وذلك لسيطرة قوى عظمى على تلك البلاد، فهناك الدولة الصفوية في فارس (إيران حاليًا)، وهناك الدولة العثمانية في أغلب مناطق آسيا الغربية ومناطق شاسعة من أوروبا نفسها، وإمبراطورية المينغ في الصين، والهند تحت سيطرة المغول عندها، وحاول الأوروبيون قدر المستطاع الابتعاد عن التصادم والمواجهة والوقوف في وجه تلك الدول والامبراطوريات؛ فهدفهم كان هدفا اقتصاديا مغلفا بالهدف الديني، ورغم خوفهم من الاحتكاك مع تلك القوى، إلا أنهم كانوا على تواصل مباشر بهم، وتوطيد علاقتهم بتلك القوى المسيطرة، حتى يتمكنوا من دخول مياه المحيط الهندي بهدوء تام دون أي فوضى، ولكن لم يستمر هذا الهدوء وهذا الاحتكاك طويلًا، فكان لزامًا أن يكون هذا التصادم ظاهرًا، فلم تستمر تلك الدول بنفس قوتها السابقة؛ فالدولة العثمانية فقدت الكثير من أراضيها في يد النمساويين والروس، والإمبراطورية الصينية بدأت تضعف بسبب مشاكل داخلية وسياسية وذات الأمر حصل عند المغول في الهند، وبقيت الدولة الصفوية متماسكة شيئًا ما، منها استغل الأوروبيون هذا الضعف، فصاروا يفكرون بطريقة سلطوية، وخرج ما كان مدفونًا في داخلهم، والرغبة الحقيقية من هذه الحملات الاستكشافية، ولكن فوق كل ذلك كانت أوروبا تحتاج بشكل كبير إلى منتجات الدول الشرقية من التوابل والبهارات والمعادن والسكر والعاج والحرير...وغيرها من المنتجات التي لم تكن موجودة إلا في الدول الشرقية.

أخذ الأوروبيون يبحثون عن طريق يوصلهم إلى الشرق دون المرور في أراض أي دولة من القوى العظمى المسيطرة على الشرق؛ لأنَّ أغلب المنافذ كانت مسدودة لها؛ فاستطاع البرتغاليون اكتشاف رأس الرجاء الصالح، ومنه أخرجهم مباشرة إلى المحيط الهندي، ويمكن أن نقول إنَّ البرتغاليين هم أول الدول الأوروبية وصولًا للمحيط الهندي، فاستطاعوا أن يقنعوا الشعب البرتغالي بأنَّ الهدف الرئيسي من هذه الحملة هو هدف ديني، وأنهم يريدون أن ينقذوا المسحيين في الهند، فهم يعانون من اضطهاد وتعذيب وتنكيل، غير أنَّ الهدفَ الرئيسيَّ هو هدف سلطوي اقتصادي بحت، ولم يستمر الهدف الديني مطمرًا في داخلهم، فسرعان ما ظهرت رغبتهم الحقيقة، فعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا الكثير من الشعوب ودمروهم، حتى إن مسيحيي الشرق أنفسهم تبرأوا منهم، وهذا ما نجده جليًّا في عُمان، فعندما دخلوا مسقط فقد نكلوا بأهليها وقصوا آذانهم وقتلوهم شر قتلة، وهذا نفسه ما فعلوه في السواحل التي سيطروا عليها، وهذه التعامل السيئ للبرتغاليين للشعوب قلَّص من الوجود البرتغالي في الشرق، فلم يستمر كثيرًا، إلا أنَّ تجارتهم بقيت مدة على حالها، لكن الشعوب لم تستمر على صمتها وسكوتها، وثارت تلك الشعوب على البرتغاليين، وأخرجوهم من ديارهم، ويعدُّ العمانيون هم أول الشعوب التي طردت البرتغاليين من المحيط الهندي وذلك في عهد اليعاربة، بدءًا من الإمام ناصر بن مرشد، وانتهاء إلى الإمام سيف بن سلطان الذي لاحق البرتغاليين حتى في السواحل الهندية وشرق إفريقيا، وطردهم من المحيط الهندي نهائيًّا.

زاد الاستثمار الأوروبي في المحيط الهندي، وزاد التنافس بين الدول الأوروبية، فلم يقتصر المحيط الهندي على البرتغاليين فقط، فقد تبعهم من بعدهم الهولنديين والانجليز ثم توالت بعدها الدول الأوروبية، فعند قدوم الهولنديين والإنجليز للمحيط الهندي كانوا على استعداد تام لمواجهة عسكرية ممكنة ضد البرتغاليين؛ لأنَّ البرتغاليين كانوا يمتلكون السلاح والعتاد، وكانوا يسيطرون على القلاع والموانئ، ولكن عند وصول تلك القوى حاولت كل قوة أن تضعف الطرف المنافس بطرق مختلفة من خلال التعاقد مع الدول المسيطرة في تلك البلدان، خاصة الدولة الصفوية، وكذا التنافس في السيطرة على الموانئ والتعاملات التجارية الميسرة من كل دولة، طمعًا للحصول على المنتجات الشرقية.

هذا التنافس وهذه الصراعات التجارية الأوروبية كان لها الدور الكبير في تحريك الرغبة التجارية عند شعوب المشرق أنفسهم، فأخذوا يتاجرون بأنفسهم. وفي مقابل ذلك، لم يستغنوا عن الأوروبيين في تعاقداتهم التجارية، كما أنه ظهرت منافسة بين التجار بعضهم البعض من حيث استغلالهم للمواقع التجارية والموانئ التجارية النشطة، وصار هناك تعاون تجاري بين التجار الآسيويين أنفسهم من جانب، وبين التجار الآسيويين والتجار الأوروبيين من جانب آخر، وهذا ما ساعد على زيادة الحراك التجاري في المحيط الهندي، وأصبحت كل دولة تنافس الأخرى في إبراز خدماتها ومساعداتها للأخرى، لكن مع مرور الوقت سقطت تلك القوى الأوروبية التجارية، وبقي البريطانيون وحدهم المسيطرين على التجارة في المحيط الهندي، فقد أفلست الشركة الهولندية المدعومة من الحكومة الهولندية، حتى وصل بهم الأمر إلى السيطرة على الموانئ السنغافورية والموانئ الصينية، وبعد سقوط الوجود البرتغالي أولًا ثم الهولندي بقي الوجود البريطاني متماسكًا، وفي هذه الأثناء نجد أن هناك دولة أخرى أرادت التنافس مع بريطانيا ألا وهي فرنسا، وذلك بعد الحملة الفرنسية على مصر، لكنَّ البريطانيين حاولوا بكل قوتهم أن ينهوا الوصول الفرنسي للمحيط الهندي؛ وذلك من خلال تشويه سمعة الفرنسيين عند شعوب تلك المنطقة، بينما وجدنا تقاربا بين العمانيين والفرنسيين، وحاول الإنجليز أن يثنوا أسرة آل بوسعيد عن التواصل مع الفرنسيين، لكنهم لم يستمعوا إلى التشويه، وعندها لجأ البريطانيون إلى التهديد بطرد التجار العمانيين من السواحل الهندية.

ومع كلِّ هذه الحملات، لم يكن الإسلام بعيدًا عن أهداف الدول الأوروبية، فكان أحد الأهداف المهمة هو القضاء على الإسلام، والحملة الصليبية والحملة الفرنسية دليلان على ما نقول، وساعدهم على ذلك أصحاب الديانات المعادية للإسلام؛ أمثال: البوذية والهندوسية في الهند، فقد حاولوا إضعاف التجارة الإسلامية في بلاد الإسلام، وصارت حروب من أجل هذا الهدف، ولكن يبدو أن ترسيخ الثقافة الإسلامية في أبناء آسيا الغربية بقي ثابتًا وراسخًا.

أخبار ذات صلة