من التسامح القديم إلى تسامح الحداثة وما بعدها تفكيكية جاك دريدا نموذجا

محمد الكمزاري

إنّ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وهذا الطبع يفرض عليه الدخول في علاقة مع الغير. ويبدو أنّ الإنسانية غير قادرة على التخلص من العنف الجوهري الذي يميز هذه العلاقة مع الآخر المختلف ويشوهها، ليصبح إشكالية محورية للدراسات الفلسفية والكتابات الفكرية حيث لم تتوقف اليوتوبيات عن إغواء الناس، ووعدهم، ومنحهم آمالا بتجاوز مآسي الماضي.

فقد حاول فلاسفة الأنوار جاهدين تجاوز حالة الحروب الدينية التي طبعت عصرهم، والتي تميزت بالعداء أو على الأقل بالكراهية لكل مخالف ومختلف، وحددوا ملامح ومقاييس للمحبة والغفران والتسامح تتناسب مع ظروفهم. فليس من الغريب إذا كان الفلاسفة، اليوم، في القرية العالمية الغارقة في هذا الوضع الرهيب، كما سماه بول ريكور، يطمحون إلى مجتمع بدون عنف، ويحلمون بعالم ودي ووردي.

إنّ فلاسفة العصر وبمنطق الاتصال والانفصال، والاستمرار والقطيعة، يحاولون الاستنجاد بمفهوم التسامح الأنواري، وكذا مفاهيم الصفح، والصداقة، والضيافة... إلخ، ولكن وفق رؤية مغايرة تتلاءم مع ظروف العصر ومستجداته، وتراعي خصوصياته وانشغالاته، واعتمادا على آليات جديدة، ومناهج معاصرة، وبرؤية أكثر شمولية لاتساع دائرة العنف ومجالاته وأنواعه ونتائجه.

في هذا الإطار نحاول استعراض أفكار الباحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الأستاذ -محمود أحمد عبدالله- الذي اهتم بفلســفة التفكيك ودلالتها عند جاك دريدا، تحديدا فهمه لمعنى التســامح.

بداية تناول الباحث تاريخ مفهوم التسامح في الفلسفة الغربية فقد ظهر هذا المفهوم أول ما ظهر في كتابات فلاسفة التنوير في القرن السابع عشر الميلادي زمن الصراع الديني بين البروتستانت والكنيســة الكاثوليكية، حينما نادى أولئك بحرية الاعتقاد وطالبوا الكنيسة البابوية بالتوقف عن التدخل في العلاقة بين الله والإنسان، وبضرورة التسامح مع المخالفين؛ الشيء الذي يعني السماح لهم بحق الوجود، وحق التعبير عن مذهبهم، والقيام بالشعائر الدينية بالطريقة التي يعتقــدون بأنها الأصلح. وكان أبرز من تناولوا هذه الأفكار هم جون لوك، واسبينوزا، وڤولتير. حيث قام جون لوك بتأليف "رسالة في التسامح"، وفي هذا الكتاب قدم لوك رؤيته للتســامح بوصفــه ضرورة أساســية لحل الخلافــات والصراعات الدينية، وانطلق في تصوره للتسامح من مبدأ الحرية فيجب ألا تتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنّها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. إنّ هذه التهمة لن يكون لها أي مبرر إذا ما قام التسامح؛ فإنّ السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فإنّه متى مازال الاضطهاد واستقر التسامح معهم؛ زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان. فوجود نوازع الفتنة بينهم إنّما مرجعه إلى ما يلاقونه من اضطهاد وعذاب.

 نذكر في هذا الإطار ما قدمه جاك دريدا حول مفهوم التسامح الذي سماه بقانون الضيافة الذي يشكل تمييزا مختلفا يفصل الضيافة الخيرية للدولة عن الضيافة القديمة تجاه الأقران. فبينما تمارس الثانية ضمن منطق براءة خالصة وتتوافق مع الحقوق والواجبات "المشروطة" دائما، كما حددتها التقاليد اليونانية-اللاتينية، أو اليهودية-المسيحية وفلسفات كانط وهيغل خصوصا من خلال الأسرة، والمجتمع المدني والدولة"، نجد أنّ الأولى غير محدودة، ومطلقة ولا تخضع لأي شرط: إنها تتوجه "إلى الآخر المطلق، غير المعروف، المجهول، والذي أمنحه مكانا، وأسمح له بالقدوم، أسمح له بالوصول، وامتلاك مكان في المكان الذي أمنحه له، دون أن أطلب منه لا المعاملة بالمثل (الدخول في اتفاق) ولا حتى اسمه". إنها قانون "دون إلزام، وبلا أمر ولا واجب. باختصار قانون بدون قانون.. نداء يدعو دون أن يأمر. إنّ "الضيافة غير المشروطة" لجاك دريدا ليست برنامجا، ولا مفهوما سياسيا أو قانونيا. كان يطلق عليها ويصفها، هو نفسه، بأنها "مبدأ". إنّها لا تعمل كقاعدة للسلوك، ولا كأمر، إنّها برنامج أو قاعدة أخلاقية؛ ذلك أنّ الضيافة مقيدة بعامل الزمن؛ هذا الزمن الكفيل ببناء جسور التفاهم، وهو القادر كذلك على التفاهم المشترك القائم على التحمل والقبول، والقادر على تحويل الضيف إلى مواطن له حقوق ينبغي العمل على تحقيقها.

ولكن ومن منطلق قانون الضيافة في فكر دريدا، نجد أنّه وقع في تناقضات لافتة، فمن جهة يقبل دريدا بمهاجمة الحكومة الفرنسية على سياساتها الاستعمارية تجاه الجزائر لكنه من ناحية يرفض قيام دولة قومية خشية نشوء استبداد على أساس عرقي، أو قومية جزائرية. وكذلك نجده يرجح نقد الحكومة الإسرائيلية لكنه لا يعني بذلك رفضه للدولة الإسرائيلية. هذا على الرغم من أن هذه الدولة هي نتاج تعصب ديني، أو بالأدق دولة تنهض على قومية دينية. هذا الطابع البيني، أو هذه السيولة هي التي تجعل خطاب دريدا يتبنى رأيين متعارضين في الوقت ذاته؛ فهو من جهة يريد الانتباه إلى هوية الآخر وخصوصيته؛ لكنه من جهة أخرى يقول باستحالة قيام ضيافة غير مشروطة لخطورتها على صاحب البيت. في الواقع إن دريدا يقف في الصفين معا صف من يقف بجوار المهاجرين واللاجئين بالانحياز إلى أحقيتهم في الحصول على معاملة كريمة واحترام اختلافهم في مقابل صف أهل اليمين المتطرف ممن يرون إمكانية أن يكون الغرباء مصدر خطر. فكيف يمكن أن يكون الغريب مصدرا للتهديد في الوقت الذي ينبغي الوقوف بجـواره واستقباله واحترام خصوصيته.

مما تجدر الإشارة له أنّ التناقض واضح فــي تقديمه لمفهوم "الضيافة غير المشــروطة"؛ إذ يحرص على القول مرارا في مؤلفاته، وفي مواضع عديدة في حواراته التي يجريها، يحرص على القول باســتحالة تطبيقها؛ فهي تتجاوز الواقع القانوني والسياسي ويكفي أن تكون إطارا للضيافة المشروطة كما سبق التأكيد.

بينما نجده في مؤلف آخر له، وهو كتاب "المارقـون" يؤكد على أن هذه الاسـتحالة مرهونة بالزمن الحاضر؛ لكنها ممكنة في المستقبل؛ مما يعني أنّ هذا الشكل من الضيافة، هو شكل له خصوصيته، وقابل للتطبيق مستقبلا، وهو عين ما يقره بشأن الجامعة غير المشروطة، التي هي نمط متصور للجامعة في المستقبل؛ نمط الجامعة المتحررة من كل القيود.

أخبار ذات صلة