صناعة الاستبداد باسم الدين

محمد علي الكمزاري

إنَّ الاستبدادَ من أخطر الآفات التي ابتُليت بها الأمة الإسلامية ومجتمعاتها، والأخطر منها عندما يكون الاستبداد باسم الدين، والذي يقول عنه الامام الشيرازي إن "الحكومة المنحرفة المصبوغة بالصبغة الدينية أسوأ الحكومتين؛ إذ الاستبدادية غير الدينية تقتل وتنهب وتهتك تحت عنوان واحد هو مصلحة الوطن، بينما الدينية المنحرفة تفعل كل ذلك تحت عنوانين: عنوان الوطن، وعنوان أن الله أمرها بهذا؛ ولهذا مآسي الحكومة الدينية الاستبدادية أكثر من مآسي الاستبدادية الدنيوية فقط".

وهذا ما يؤكد عليه عبد الرحمن الكواكبي؛ حيث يقول "إن الاستبداد أصل الفساد"؛ وذلك لأنَّ أغلب الآراء الفقهية وصلت إلينا عن طريق الاستنساخ غير الدقيق. وإضافة إلى ذلك، بعض القادة الروحانيين لا يوجهون الناس بالطريق السليم. أيضا الخطاب الديني بعضٌ منه يكون متطرفا مما يؤدي للفوضى؛ لذا لابد من نقل النصوص الدينية بشكل سليم".

ويعتبر الدين أقوى محرك اجتماعي يدعو الناس لنيل المساواة داخل مجتمعاتهم؛ لذلك لجأت الأنظمة الاستبدادية لاحتكاره بُغية السيطرة على الناس به وتحويله -أي الإسلام- لدين تبريري، يُكسب أتباعَه حالة رضوخ وقبول بالواقع غير العادل، حيث يروّج رجال هذا "الدين الجديد" إلى فكرة الإيمان بالجبر والقضاء والقدر، والتي تخدّر الناس وتحمي أصحاب الطبقات الاجتماعية العليا، ويقوم كذلك على تبرير تملك فئةٍ قليلة للخيرات والثروات والسلطة وحرمان الأغلبية.

وقد عبَّر الكواكبي عن عُمق هذه العلاقة في كتابه طبائع الاستبداد بقوله: "تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، والبعض يقول: إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان؛ أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، أو هما صنوان قويّان؛ بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب".

الاستبداد باسم الدين نجده في التاريخ الإسلامي بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ الخلفاء الأمويون والعباسيون يحكمون باسم الدين وباسم النص المقدس ووجدوا من يروج له أيدلوجيا والأمثلة هنا كثيرة. على مستوى أوروبا وفي القرون الوسطى وما قبلها كانت روما أيضا تعتز بفكرة الاستبداد، لا بل إن المجتمع البيزنطي القديم كان يعتبر قضية الاستبداد قضية طبيعية وضرورة اجتماعية، حتى إنَّ من كان يحكم في روما من حُكَّام كان يطلق عليهم اسم المستبد، وهذه حقيقة راسخة وكان الحكام يتفاخرون بكونهم مستبدين وهم لا يخجلون من هذه اللفظة ولا من هذا المصطلح، بل يعتبرونه مصدر قوة لهم. في أوروبا في القرون الوسطى أيضا كانت السلطة الكنسية هي السلطة المستبدة والمثال الحي البارز على الاستبداد الديني، في كل أطره وصفاته وسماته.

لقد أتقن رجال الدين المسلمين على مر التاريخ فن تزويق وتأطير صورة الحاكم المستبد وتغطية سيئاته بالنصوص المقدسة بدءا من الأحاديث النبوية إلى تفسيراتهم الخاصة ، ورغم تعاقب مئات المستبدين على بلاد الإسلام لم يحاول معاصروهم من فقهاء ومشايخ اعتراض سبيلهم، حتى من قام منهم بهدم الكعبة واستباحة المدينة المنورة وقتل عشرات الألوف من المسلمين المعارضين لحكمه، بل على العكس تماما برَّروا تلك الأفعال والتمسوا لها الأعذار الفقهية المسندة عن النبي محمد وأصحابه. كانت جهودهم تسير في اتجاه مختلف وهو تأسيس مدونة سلوك للرعية تؤبد حكم السلطان وتجعل من الإنسان كائنا ضعيفا مستباحا بين فكي الرحى (الدين والسلطة).

وهذا ما حذر منه رضوان السيد في مقاله "المؤسسات الدينية في المجال العام"، والمنشور بمجلة "التفاهم"؛ حيث اعتبر أنه لا شيء أخطر على المجتمعات من إدخال الدين في بطن الدولة، أو استخدام الدين في التنافس السياسي؛ وذلك لأن الدينَ ضميرُ المجتمع وسكينتُه ويتبادل معه الاحتضان، والتنافس يُشرذم الدين ويشرذم المجتمعَ وعباداته ومنظومتَه القيمية.

إنّ الانشغال الدّيني بالشأن السياسي وليس العامّ يضعنا على شفير الانقسام، وإهمال الواجبات الإسلامية في المعروف وأمن المجتمع وسلامته؛ فالمطلوب دائماً وفي الأزمنة الحديثة بالذات  الإصرارُ على إخراج الحزبيات الدينية والمذهبية من بطن الدولة؛ ليبقى الدّين سالماً وتبقى الدولة.

ولكي تتمكَّن الجهات الدّينية من القيام بدورها، عليها المزيد من العمل لتقوية صدقيتها، ومن ثم شرعيتها في تمثيل الإسلام بالداخل وتجاه الخارج. وقد قامت بالفعل بعملٍ كثيرٍ في العقود الماضية للوصول إلى عقل الجمهور وقلبه. وبالطبع فإنّ مقادير النجاح لتلك المؤسسات تختلف من دولةٍ لأخُرى، ومن مجالٍ لآخر.

وختاما.. نقُول بضرورة إعادة قراءة تاريخ الدين وتاريخ السلطة؛ بهدف تحرير الدين من ألاعيب السلطات وتحرير السلطة من إمكانية استخدام الدين وتخريبه، والأهم إعادة قراءة النصوص الدينية و"الأفكار" الدينية في تاريخيتها لجهة تعرية اللحظة والكيفية التي ولدت فيها، وبالتالي نزع القداسة عن كل "لا مقدس" فيها، مع الحفاظ على روحية الدين وجوهره المتعالي.

أخبار ذات صلة