محمد الكمزاري
يتناول الباحث والأستاذ في الفلسفة الحديثة –محمد الشيخ -تأملات الفيلسوف الألماني غونتر أندرس حول التحولات التي باتت تغير ملامح العالم والهوية الذاتية والجمعية للأفراد بعد أن بات العالم الافتراضي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية حيث يقول «عندما يصبح الافتراضي حقيقيا، يصبح الحقيقي افتراضيا».
من الواضح اليوم في العالم برمته أنه تتم دعوة الإنسان إلى أن يُشاهد فاغراً فاهه صور العالم وقد عُدلت كل التعديل الذي تتيحه تقنيات الإنتاج من المجلات، والأفلام، والبرامج التلفزيونية، ويمكن أن نضيف في زمننا هذا الثورة التي لم يشهد عليها غونتر أندرز: ثورة العالم الافتراضي التي جاءت بها وسائط الاتصال الحديثة، فيخيل إليه بهذا أنه يشارك في العالم برمته أي يتدخل في كل ما يشكّل في تصوره العالم برمته وقد جيء به إلى بيته، ولكن في حقيقة هذه الدعوة إلى مشاهدة العالم فإنه في الوقت ذاته لا يُخبر عن نظام العالم، ولا يُسمح له باتخاذ القرارات الأساسية في أمر هذا العالم الذي يقدّم له في طبق من الصور.
وبهذا أمسينا كائنات محكوماً عليها، بدل أن تقوم بخبرة العالم تكتفي بالأشباح؛ كائنات لم تعد تتمنّى شيئاً، حتى حرية اختيار كل جديد ما عاد بإمكانها حتى تصورها. لقد أوضح غونتر أندرز هذه المسألة إيضاحاً بديعاً في فصل من فصول كتابه عن تقادم الإنسان حمل عنوان (العالم من حيث هو شبح ومصفوفة: تأملات فلسفية في الراديو والتلفزيون) حيث انطلق من الرد على من يُسميهم أصحاب "الحجة التفاؤلية" القائلين بأنَّ التقنيات إنْ هي إلّا مجرد «أدوات» بريئة في يد الإنسان يسخرها كما شاء أنى شاء ومتى شاء، لا كما شُبّهَ لهم.
وإنما عالم الصورة عالم« دُبر »ولم« يُتَدبر » فقد أمسينا أمام«عالم» يُبذل لنا في بيوتنا لم نسع إليه ولم نبحث عنه عالم ما عادت فيه الآلة مجرد آلة بل أكثر، وصار فيه الاستهلاك الجماهيري للصورة أو الصوت استهلاكاً يتم في إطار من الوحدة والعزلة: كل مستهلك على جهازه عاكف في أغلب أوقاته حتى نشأ عن ذلك "ناسك الجماهير" أي ذاك الشخص الذي دأبه أن«يشاهد» كل ما تشاهده الجماهير الأخرى لكنه متفردٌ في عزلته ووحدته. ها هم الآن جالسون وهم ملايين من الناس، مفصولون بعضهم عن بعض ولكنهم كلهم يشبه بعضهم معتقلين في أقفاصهم [في خلواتهم] كنساك مُتعبدين، لا لكي يفروا من «العالم، وإنما حتى لا يفلت منهم أي شيء من العالم وقد بات صورة وتمثالاً"
ها هــو ذا «العالم» يأتي إلى الإنســان لا الإنسان يأتي إلى العالم، بحيث يقدم هذا «العالم» إلى الإنسان كما يقدم له الماء والكهرباء. والحال أن هذا الأمر له تأثير عميق على مفهوم «العالم» نفسه، على النحو التالي:
1- عندما يأتي «العالم» إلينا، لكن من حيث هو «صورة» فحسب؛ فإن الشأن فيه أن يكون «حاضراً» و «غائباً»معاً؛ أي يكون على التدقيق«شبحاً» ليس إلّا.
2- عندما يأتي «العالم» إلينا وليس العكس؛ فإننا لم نعد نوجد في العالم؛ إنما أصبحنا نحيا على وضع كائنات في المدينة الفاضلة، نستهلك هذا العالم استهلاكا.
3- عندما نستدعي هذا (العالم) في كل لحظة بواسطة زر استخدام أو إطفاء، فإنه يخيل إلينا أننا بتنا نملك قوة ربوبية، والحقيقة لا كما خيل إلينا بل نحن لعبة ملعوبة.
4- عندما يتوجه هذا "العالم "إلينا من غير أن نقتدر على أن نتوجه إليه بدورنا، فإنه يكون حينها محكوماً علينا أن نصمت، مقضياً علينا بأن نُستعبد.
5- عندما نستطيع أن ندرك ما ندركه ولا نطيق أن نفعل فيه، نكون حينها » قد تم تحويلنا إلى "متلصصين" و"جواسيس".
6- عندما يتم نقل حدث ما جرى في مكان معين وتم نقله إلى أي مكان في صيغة "برنامج" فإنه يكون قد حُول إلينا على شاكلة؛ بضاعة متحركة وحاضرة تقريباً في كل مكان: والحيز الذي حدث فيه ما عاد. «مبدأ تفريد».
7-تصير المسافة ملغية بين «الواقع» صورة » حين لا تعود «للحدث» أهمية اجتماعية إلّا بقدر ما يتخذ شكل "إعادة إنتاج" أي شكل صورة تصور.
8- عندما يتقدّم «الحدث» اجتماعياً، وقد اتخذ شكل «إعادة إنتاج» على » شكله الأصلي الذي يُحكم عليه بالتواري، فإنه يصير حينها على «الأصل» أن ينضبط إلى مطالب إعادة الإنتاج، ويمسي الحدث مجرد مصفوفة لإنتاجه!
قد يعترض معترض على تحليلات الرجل بالقول: أليس بمكنة الإنسان أن يقوم و« يطفئ» جهاز التلفزيون أو المذياع، بل حتى ألا يشتريه أصلاً؟! أليس ما زال هو حراً في ألّا يُقبل إلّا على «العالم الواقعي» وحده، وأن يغفل عن كل شاغل سواه؟ وجواب غونتر أندرز: هذا أمر لا يمكن أن يكون، سواء لعبنا اللعبة أم لم نلعبها » فإنه يُلعب بنا ومهما امتنعنا عن الفعل فإن «إضرابنا الخاص» عن أدوات الترفيه هذه لن يغير في الأمر فتيلاً؛ وذلك لأننا أمسينا نعيش اليوم في إطار بشرية فَقَدَ عندها «العالم» و «خبرة العالم» كل قيمة؛ لا شيء باتت له قيمة اللهم إلّا شبح العالم واستهلاك هذا الشبح؛ فالزعم أننا أحرار في امتلاك هذه الأجهزة أو في عدم امتلاكها، وفي استعمالها أو في عدم استعمالها إنما هو في طبيعته (وهم خالص) ، وليس بالاكتفاء بتذكير الإنسان بأن عليه أن يأخذ بعين الاهتمام ،«الحرية البشرية» وأنه يمكن القضاء أننا أمسينا نساق إلى الاستهلاك سوقاً. كلا؛ ما كانت هذه الأجهزة مجرد (وسائل) إنما قرارات اتُخذت مسبقا: قرارات اتخذت حتى قبل أن نُعطى إمكانية اتخاذ القرار والتقرير بشأنها.
بذلك نجد أنفسنا مجبرين على العودة الآن إلى الأسئلة الأصلية من قبيل: من نحن؟ وماذا سنصبح؟ ومن الذي يمكن أن نكونه عندما تتزايد مستويات عيشنا في عالم بلا إنسان؛ أي حين ينحصر العيش في الحياة الواقعية وتتمطط الحياة في الفضاء الافتراضي!!
