ناصر الكندي
يتناول الباحث "يوسف مدراري" في مقاله المنشور بمجلة التفاهم موضوعًا مهمًا بعنوان "علاقة المنطق بعلم الكلام، مقاربة أولية" وذلك من خلال استعراض مقال للباحث الألماني جوزيف أن اس "البنية المنطقية لعلم الكلام" المنشور عام 1967م، ويقوم المقال على سؤال مهم: هل وظّف المتكلمون المنطق في استدلالهم؟
ويحذر الكاتب من أنَّ كلمة المنطق المستخدمة أحيانًا على لسان المتكلمين ليست هي المنطق كما يفهمه الفيلسوف أو ما يسمى بالمنطق الأرسطي، ويعود ذلك حسب الباحث الألماني إلى ضيق الوقت المستخدم في المنافحة عن الإسلام ضد المتكلمين من النصارى واليهود والوثنيين، فهم قد فضلوا استخدام "آداب الكلام" و"علم الجدل" عوضا عن كلمة المنطق، لذلك تجد أن الأدلة التي صاغها المتكلمون في هذه الفترة من نوع Argimentum ad hominem وتعني الحجاج من نوع أو محاجة الإنسان بكلامه، أي من فمك أدينك. ويستشهد هنا بابن رشد في كتابه تفسير ما بعد الطبيعة وكذلك بابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين" إذ ينقل عن المتكلمين رفضهم للمنطق ومصطلحاته واستبداله بمصطلحات أنسب.
ويحجز علم المنطق موقعاً له في العلوم الشرعية؛ إذ تنقسم العلوم الشرعية حسب العديد من المؤرخين والفقهاء إلى قسمين: علم المقاصد؛ وفيه علم الفقه علوم الحديث وعلم الكلام وعلم التفسير، والقسم الثاني علم الآلة؛ وفيه علم اللغة والمنطق. وقد اشترط الكثير من علماء الفقه ضرورة توفر علوم الآلة في الاجتهاد الفقهي مثل الرازي والجصاص والقرافي وذلك في تسميات مختلفة دون ذكر المنطق صراحة خوفاً من لفت الانتباه مثل: أحكام العقول ودلالاتها، والاستدلال والبرهان وغيرها.
ولم يكن للمنطق الصدارة في التعليم الإسلامي في القرون الوسيطة خاصة في المدارس السنية، وقد اختلف العلماء في استقبال علم المنطق؛ فمنهم من أوجبه مثل الزبيدي ومنهم من أنكره مثل ابن القيم وذلك لأنَّ المنطق يعرّض الأحكام للتغير والتبدل، فهو يقول إن المنطق كلما دخل على علم أفسده.ومنهم من أيد تعلمه مثل السبكي ردا على أشباه الفلاسفة والمناطقة وذلك لتقوية الجانب الاستدلالي لدى المتكلم في الرد.
ويتعرض الباحث بعد ذلك إلى موقف المتكلمين من المنطق، ويتضح كما ذكر سابقاً أنهم يتحاشون استخدام كلمة المنطق ويعوضونها بـ"آداب المتكلمين والبحث "وغيرها، وهم يصرحون برفضهم للمنطق لأن مقدماته تؤدي إلى إفساد المبادئ الكلامية. ومن أبرز المتكلمين الذين هاجموا المنطق: أبو الحسن الأشعري، والباقلاني، والنوبختي، والميهني، والقزويني، والسيوطي وغيرهم.
ويتطرق الباحث بعد ذلك إلى الأسباب التاريخية التي أدت إلى رفض المنطق، ومن ضمنها الظروف التاريخية التي قدّمت المنطق إلى العالم الإسلامي ونتائج الاستدلال الفاسدة حين تم استخدامه من قبل بعض الفرق الخارجة عن السنة. ولعل السبب الكامن وراء رفض القول إن علم الكلام في أي مرحلة من مراحله قد تأثر بعلم المنطق هو الخوف من أن يكون "الفقه الأكبر" الذي عليه المعوّل في إثبات العقائد له تعلّق واحتياج إلى علم من علوم اليونان.
ويتساءل الباحث: هل يؤدي علم الكلام وظيفة المنطق؟ يبدو أن المتكلم لا يلتفت إلى البناءات الصورية وتفاصيلها بقدر ما يركز على فعل الإقناع. وهذا راجع في كثير من الأحيان إلى أن علم الكلام هو وليد سياقات تناظرية حية في الواقع، تتطلب من المتناظر سرعة البديهة في الرد وحشد الكثير من الحجج، وليس لديه من الوقت في أن يصيغ الحجج التي يوردها على الميزان الصوري.
أما بالنسبة للحضور المنطقي في المدونات الكلامية فهو واضح جدا، فالكثير من المصادر العربية تتحدث عن هذا التأثير وذلك بالاستعانة بالمستشرق الألماني هوروفيتس الذي أفرد بحثا عن ذلك، إذ بّين أن بعض المتكلمين قد تبنوا آراء فلسفية يونانية بعينها مثل تبني النظّام لآراء رواقية، ومعمر وأبي هشام لآراء أفلاطونية، ولا يعني هذا بالضرورة أن المتكلمين كانوا على اطلاع مباشر على كتب الفلاسفة اليونان، بل إن الأرجح أنهم تلقوها شفويا. ونجد تأكيدا لهذا الكلام عن ابن ميمون في دلالة الحائرين. ولم يكن التعاطي مع الفلاسفة اليونان سلبيا فقط، فقد كان للمتكلمين السبق في الرد على موضوع "قدم العالم" متقدمين بذلك على آباء الكنيسة. بل إن بعض المتكلمين قاموا بالاستفادة من المذهب الذري لليونانيين الأوائل للتدليل على فكرة أن العالم خلق من عدم.
ومما يؤكد وجود الأثر المنطقي في علم الكلام استقراء المقدمات النظرية المنهجية التي اعتمدها المتكلمون، والتي استقرت منذ الربع الأخير من القرن الرابع الهجري في الكتب الكلامية، فعند النظر إلى المسائل والدلائل العقلية التي يسوقها المتكلمون تبرز مجموعة من مسائل المنطق مثل تقسيم العلم إلى قديم وحادث، والحادث إلى ضروري ونظري، أما مسألة الحد فهي تعدّ من المسائل المشهورة التي لطالما تعرض لها المتكلمون.
وهناك اعتراضات للمتكلمين على بعض القضايا المنطقية، وذلك أن علم الكلام هو علم قائم بذاته لايستند على علم آخر، كما أن المتكلمين يفرّقون بين علم المنطق وعلم الجدل بترجيح فائدة الثاني، فابن عقيل مثلا يعيب على المنطق قلة أفقه ويمتدح الجدل لأنه غير منضبط ويبحث الموضوع بعدة طرق، وهو، كما يقول الباحث، من الأوائل الذين تنبهوا إلى أكبر عيب يطبع المنظومة الأرسطية. ويمكن إرجاع أصول الكتابة الجدلية عند ابن الرواندي في كتابه "الجدل" والبلخي في كتابه "كتاب الجدل وآداب أهله وتصحيح علله" حيث جاء للرد على أخطاء الرواندي، وغيرهم.
ويتساءل الباحث هل تعرّف المتكلمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الأورغانون الأرسطي وخصوصا كتاب "المواضع والتبكيتات السوفسطائية"؟ يرى "جورج فايدا" أن هناك الكثير من أوجه التشابه التي لاشك بأن مصدرها هو الأورغانون، إلا أن التأمل في المصطلحات المستخدمة عند علماء الكلام يدرك أنها مختلفة عن المصطلحات الموظفة للأورغانون، مثل نقدهم لنظرية الحد المنطقية، وكذلك تحفظ بعض المتكلمين الأشاعرة على الفكرة القائلة بأنه يلزم من صدق بالمقدمتين أن يسلم بالنتيجة، ولم يقبل بعض الأصوليين فكرة الجنس والنوع الأرسطية، وذلك بتأكيدهم أن يكون الجنس أخص من النوع عكس الأورغانون الأرسطي.
يختتم الباحث مقاله بعرضه لتقاطع علم الكلام مع المنطق، ومبرره هو أن الكثير من علماء الكلام كانوا يرون في وظيفة علم الكلام للشريعة مثل المنطق للفلسفة، وأن علم الكلام بطبيعته يعتمد على الحجاج والدفاع عن الحقيقة الإيمانية عن طريق الحجج العقلية ولأن المنطق من بين مواضيعه طرق ترتيب الأدلة وسبرها وتمييز الصحيح والزائف منها، وكذلك الملاحظ أن الكثير من القضايا المنطقية الرائجة في الأوساط العلمية لم يتفق معها الكثير من المتكلمين واقترحوا بدائل عنها.
