ناصر الكندي
يتناول الباحث محمد المنتار في مقاله "المقولة القرآنية في الشرعة والمنهاج"، والمنشورة في مجلة "التفاهم"، مناهج وطرائق الوصول للشريعة الاسلامية الصافية؛ فهناك الطرق المضلّة، والأخرى المستقيمة، والثالثة الأقل استقامة.
ويبدأ الباحث المقال بوضع تعريف لـ"الشِّرعة" من خلال استعراض أقوال المفسرين، فابن فارس يعرفه بأنه أصل الواحد والمورد للشارب، أما الراغب فقد أعاد المصطلح لأمرين: ما سخر الله للإنسان من طريق يتحرّاه، والثاني: ما قيَّض الله له من الدين وأمره به ليتحرّاه. ويتطرَّق الباحث بعد ذلك إلى مفهوم "المِنهاج"، ويعني مصدرها نَهَجَ في اللغة الطريق الواضح، والطريق المستقيم، والخطة المرسومة، مِصدَاقا لقوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة منهاجا"، وقوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" أي ثبّتنا على المنهاج الواضح.
وهناك فارق بين الشِّرعة والمنهاج، فأبو هلال العسكري في كتابه "الفروق اللغوية" يبيِّن الفرق في أن الشرعة هي أول الشيء، والمنهاج لمُعظمه ومُتسعه، ويميل ابن منظور إلى تساوي المعنى بين اللفظين؛ إذ تعني الشرعة: الطريق والمنهاح والدين. ويبدو أنَّ المنهاج في أصله معناه مرتبط بالشدة الصعوبة، والشريعة في أصل معناها مرتبطة بالبيان والظهور دون مشقة كما أرسلها الله.
ويقدِّم الباحث كلمتيْ الشرعة والمنهاج في الاصطلاح القرآني وعند المفسرين، ويشير إلى أنَّ لفظ "شرع" ورد ذكره في القرآن في خمسة مواضع وبصيغ مختلفة؛ مثل: شِرْعة، وَشُرَّعا، وشَرَعَ، وشَرَعوا، وشريعة. أمَّا لفظ منهاج، فقد وردة مرة واحدة في سورة المائدة: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا". ويقول الطبري إنَّ الشرعة هي الشريعة بعينها، وسميت شرائع الإسلام لشروع أهلها فيه. وأما المنهاج، فأصله الطريق البيِّن الواضح. ويقول القرطبي إنَّ الشريعة هي الطريق الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة. ويفرق ابن الجوزي بين اللفظين: فالشرعة هي ابتداء الطريق، بينما المنهاج هو الطريق المستمر.
ويتَّجه الباحث بعد ذلك إلى كشف مُحدِّدات الرؤية القرآنية للشرعة والمنهاج من خلال المبادئ والمآل. فمن مظاهر هداية الله للناس أنْ حدَّد لهم الطريق الموصل للسعادة العاجلة والآجلة، من خلال بعث الرسل والأنبياء لهداية الناس إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، وبيان المنهاج الحكيم الهادي للعباد. ومن المبادئ الأسس الراسمة لمسار الشرعة والمنهاج : وحدة الدين، مقصدية العبادة، مصدرية العقيدة، اعتبار الكليات والقواعد العامة في الشرائع.
وبشأن "وحدة الدين"، فقد بيَّن القرآن في الكثير من آياته أنَّ الدين الذي دعا إليه الرسل جميعا واحد وهو دين الإسلام؛ مثل قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام". ويعني هذا أن مجملات الشرائع وكلياتها وأصولها كانت مضمَّنة في دعوات الرسل والأنبياء، واحدة متفقة في أصلها، منبثقة من ميثاقها الأعظم، ومصدرها الأوحد. وأما بخصوص "مقصدية العبادة"، فهو أن جوهر دعوات الرسل والأنبياء الدعوة إلى عبادة الله وحده مصداقا لقوله تعالى:"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
ولـ"مقصدية العقيدة" غاية، وهي أنَّ أمور الاعتقاد تشكل تصورا واحدا لدى جميع الرسل وأتباعهم، مثل قضية التوحيد والدعاء إليه ونفي الشرك بجميع أقسامه، وقد أنذر جميع الرسل والأنبياء أممهم وأقوامهم بمآلات الزيغ عن هذا الصراط. وفي "اعتبار الكليات والقواعد العامة في الشرائع"، فقد حفل القرآن بعديد من الآيات الدالة على وحدة الدين وتعدد الشرائع، إذ لكل نبي شريعته الخاصة به، لكن الجامع بينها هو وحدة مصدرها وهي ما سماه جل شأنه "فطرة الله". وقد اختلفت الشرائع والمناهج في تنزيل هدى الله على اختلاف السياقات والظروف، وبعث النبي محمد لإكمال الإصلاح وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى.
ويُبحر الباحث بعد ذلك في موضوع "الشرائع السماوية بين الاختلاف والاتفاق"، فإذا كانت المقاصد الثلاثة سالفة الذكر مما اتفقت عليها الشرائع، فإن ما جاء به الرسل والأنبياء جاء في شرائع مختلفة، وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافا جذريا، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية. وعليه تختلف أعداد الصلوات وشروطها وأركانها، ومقادير الزكاة، مواضع النسك، ونحو ذلك من شريعة إلى شريعة، وقد يحلّ الله أمرا في شريعة لحكمة، ويحرّمه في شريعة أخرى لحكمة، ومن الأمثلة على ذلك الصوم، والطعام من الحيوانات...وغيرها.
وقد ضرب الرسول العظيم مثلا لاتفاق الرسل في دين واحد واختلافهم في الشرائع؛ فقال: "الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد". فالغاية القصوى من البعثة التي بعث بها الأنبياء جميعا بها هي إرشاد الخلق إلى معرفة الحق، وبيان ما به من الحياة في معادهم، هذا أصل كل الرسالات السماوية متفقة عليه، وهم وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالمسالك والسبل المؤدية اليه.
وتتَّضح الصورة الكلية حول أصل دعوتهم وفروع شرائعهم، وأن هذا التنوع قائم على أساس إدراك أن الله جل وعلا يشرّع لكل نبي ما يناسب قومه ويناسب مصالحهم، ثم ينسخ الله لأمة أخرى حسب مصالحها، حتى استقر الأمر في الشريعة الخالدة إلى يوم القيامة. وهو ما عبر عنه مسك ختامهم حين قال: "الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأكمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيّين".
ويختم الباحث مقاله بالتأكيد على أن هذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي من مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع.
