ناصر الكندي
يُشير مقال "المؤتلف الإنساني: رؤية كونية" المنشور في مجلة التفاهم إلى خمس قضايا يثيرها إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني. وتقدم هذه القضايا على شكل أسئلة: ما هي بعض أسس المؤتلف الإنساني الجوهرية؟ المؤتلف الإنساني يا ترى معطى أم إنه مبنى؟ أهو وهبٌ للإنسان أم كسب؟ ما أبعاد المؤتلف الإنساني الأساسية؟ من هم مفكرو المؤتلف الإنساني عبر التاريخ الفكري فيما أتيح من أنظار للبشرية جمعاء؟ وهل يمكن أن نسهم – نحن معشر العرب- من داخل تراثنا العربي في تجديد القول في شأن المؤتلف الإنساني؟.
يعرض المقال بعض النماذج لأربع حضارات بشرية من أسس المؤتلف الإنساني من خلال قاعدة الفيلسوف الألماني كانط الأخلاقية القائلة: "عامل غيرك بما تود أن يعاملك به". فقد قال كونفيشوس في الحكمة الصينية : "لا تفعل بغيرك ما لا تريد أن يفعل بك". ونجد في المهابهاراتا الهندية القاعدة التالية: "كل ما لا يرجو المرء أن يفعل به، عليه أن يمتنع عن فعله لغيره". وفي التلمود اليهودي : "ما يزعج لا تفعله بقريبك، أحب قريبك مثلما تحب نفسك، هذا هو أساس التلمود، أما البقية فمجرد حواش على هذه الحكمة". وأخيرا قول الشاعر التركي يونس إمر في الثقافة الإسلامية: "ما تفكر فيه لنفسك فكر فيه لأغيارك. المعنى الخفي للكتابات المقدسة عبارة عن ملخص لهذه الكلمات".
أما بالنسبة للقضية الثانية حول إذا ما كان المؤتلف الإنساني معطى أم مبنى؟ فقد ذكر "أرسطو" أن لكل إنسانية أفقاً، وكل إنسان إنسان يسعى إلى أفقه. ويشير "هردر" إلى أن الإنسانية هي ما يميز كل نوعنا، وينبغي تربية إنسانيتنا في أنفسنا، فنحن لا نحملها في ذواتنا جاهزة وقد أتينا بها معنا إلى هذا العالم، وإنما تتطلب منا بذل الجهد. أما "مونتين" فقد ذكر بأن واجب الإنسانية اتجاه الكائنات الحية وحتى غير الحية مثل الأشجار. وبالجملة يتبين أن المؤتلف الإنساني ليس مسألة ولادة أو خلقة أو فطرة، وإنما هو بالأولى مسألة تربية وثقافة وتنشئة اجتماعية.
ويناقش المقال في القضية الثالثة أبعاد المؤتلف الإنساني الثلاثة المنطلقة من النزوعات الكونية: الكونية الأخلاقية، والكونية السياسية- الشرعية، والكونية الثقافية. فقد ابتدأ من الفيلسوف الإغريقي "سقراط" حين أقر أنَّه مواطن من العالم، والذي سار على نهجه تلميذه "ديوغانس" والإمبرطور الرواقي "مارقوس أوريليوس"، ومن ثم الفرنسي "مونتين" والألماني "كانط". وفي الوسط الروماني تمَّ تأكيد الطابع التضامني للأخلاق من خلال "شيشرون"، وفي القرن السابع عشر شكل الفقيه الطبيعي "غروتيوس "و"كانط" لاحقاً التوجهين الكونيين الموروثين عن الأقدمين المعين الذي نهلت منه النزعة الكونية. واعتنقت الفيلسوفة الألمانية "حنة ارندت" في القرن العشرين هذا المثال الكوسوبوليتيي الكانطي، ناقدة الدولة القومية التقليدية، وفي نفس الوقت ناظرة إلى الجمهورية الكونية بعين الريبة مخافة أن تتحول إلى طاغوت.
وعودة إلى البعد الأول للمؤتلف الإنساني المتمثل في الجانب الأخلاقي، فقد عرّف المقال هذه النزعة بوصفها نظرة ترى أن كل الكائنات إنما هي أعضاء جماعة أخلاقية واحدة، وأن عليها التزامات أخلاقية تجاه بقية الكائنات البشرية، ويمثل هذا الاتجاه الأمريكي "شارل بيتز" والألماني "توماس بوغ" والألمانية الأمريكية "مارتا نوسباوم". أما بالنسبة للجانب السياسي فهي تدعو إلى خلق مؤسسات تشريعية ديموقراطية كونية تضمن استمتاع كل مواطني العالم بالحقوق والمشاركة السياسية، ومن نماذج هذا الجانب نموذج البريطانية ماري كالدور عن "المجتمع المدني الكوني" ونموذج البريطاني ديفيد هيلد عن "الديموقراطية الاجتماعية الكونية"، ونموذج الإيطالي ارشيبوجي عن " كومونويلث المواطنين الشامل"، ونموذج الأمريكية سايلة بنحبيب عن "العضوية الكوسوبوليتية العادلة. ويتناول البعد الثالث الثقافي فكرة ابتغاء تطوير الممارسات الكونية، ومن نماذجها نومذج الكندي كوامي المدعوة " النزعة الكونية المتجذرة"، ونموذج الأمريكي هومي بهابها المدعوة " النزعة الكونية البلدية".
ويتحدث المقال في القضية الرابعة عن مفكري المؤتلف الإنساني، ويبدأ من أقدمهم القديس "اوغسطينوس" القائل بأن النوع البشري لا يأتلف فحسب بل يتآخى. ويليه القديس "توما الأكويني" بتأكيد أن البشر جميعهم يأتلفون في طبيعة كونهم بشرا. ثم "غويوم الأوكامي" الذي يقرّ بأن كل البشر يأتلفون في جسد واحد وأمة واحدة. ويأتي "جون بودان" مؤكدا أن كل البشر يرتبطون بعضهم ببعض ويسهمون في دولة كونية رائعة. أما "لايبنتز" فيقول عن نفسه بأنه لا يعد نفسه من أولئك الذين يتعصبون لبلدهم أو لأمة بعينها، وإنما يسير في خدمة النوع البشري برمته. وأخيرا يتحدث "مونتسيكو" عن إنسانيته قبل أن يكون فرنسيا، وأنه إنسان بالضرورة وفرنسي بالصدفة.
ويختتم المقال بالقضية الخامسة حول الإسهامات العربية الإسلامية في المؤتلف الإنساني، ويستعرض أقوال المؤتلفين الأوائل مثل الوزير "ابن سمعان" في الإمتاع والمؤانسة حين يعمم المساوئ والفضائل على جميع الشعوب، ويقول "السجستاني" باشتراك كل الأمم في العقول وإن اختلفت اللغات، كما أن هناك شخصيات استشكل عليها مفهوم الإنسان مثل "أبو حيان التوحيدي"، و"فريد الدين العطار" الذي حين يرى سلوكا شاذا من الإنسان، يقول: أخجل من آدميتي. وهنا يؤكد المقال أن التراث العربي تناول هذا المؤتلف الإنساني وأن علينا أن نعيد قراءة هذا التراث قراءة متمعنة.
