ثمن حرية الرأي والتعبير في سوق الدين والسياسة

أم كلثوم الفارسي

نتناول في هذا المقال ما كتبته الدكتورة أمل مبروك عبدالحليم حول "ضحايا حرية الفكر" متخذة جيوردانو برونو نموذجاً لذلك، ومن هذا المنطلق نجد أن الواقع يفرض علينا إشكالية مفرطة الدقة ألا وهي تحديد معنى (حرية الرأي والتعبير) لأنّ في سبر أغوار معنى ومفهوم ذلك المبدأ تبديدًا للكثير من الغموض الذي يدور حوله لدرجةٍ قد تصل في بعض الأحيان إلى تشويه وحجب الفهم السّليم لمضمون مبدأ حرية الكلام عن أذهان الناس. فحريّة الكلام تعني حرية الشخص في قول ما يُريد بالصورة التي يرغب فيها، سواء كان بطريقة الكلام همسًا أو جهرًا أو صياحًا أو كتابة أو رسمًا أو غناءً أو بالفنّ بكلّ صوره وأشكاله، سواء بالوسائط العادية أو الإليكترونية، سلكية أو لاسلكية.

تعد حرية الفكر والتعبير سمة أساسية من السمات الداعمة لتقدم المجتمع باعتبارها ركيزة من ركائز الديمقراطية، بالإضافة لكونها وسيلة من وسائل التعبير عن الذات، ومن ثم يتلاقى الفرد من خلالها بالمجتمع ويتفاعلان تفاعلاً إيجابياً تحتاجه الذات الفردية كما يحتاجه الحكم الرشيد بالمجتمع.

إن حرية الفكر والتعبير تُعد الحرية الأم التي يجب أن تحتضن أي حوار داخل المجتمع، وضمان تلك الحرية يعتمد بالأساس على منظومة من الآراء والأفكار والمعلومات يتم تداولها دون أي تعرض لأي نوع من القيود وليس معنى ذلك أن تؤدي ممارسة الحرية إلى إيجاد حالة من التوافق بين مختلف التوجهات، ولكن الهدف من صونها يتمثل في كفالة تعدد الآراء مع إرساء قاعدة توفر المعلومات وحيادتها في ذات الوقت.

لقد دافع أنصار الحرية عن وجهة نظرهم طوال عقود، إيمانا منهم بأنَّ حرية الكلام سمة أساسية لكلّ الأنظمة السياسية الديمقراطية في العالم، وأنّ غياب تلك الحرية يضع الدولة والمجتمع على منحدر زلق ينتهي حتمًا بالاستبداد والديكتاتورية.

يعتبر الفيلسوف جون ستيوارت ميل من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقي في نظر البعض حيث قال "إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا، واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة".

فهناك العديد من نماذج العلماء الذين تضرروا نتيجة أفكارهم ورؤاهم السابقة للعصر، ولعل أبرز من تضرروا من ذلك هم علماء الفلك، فقد أصبح من المسلم به القول بأن مسار علم الفلك لم يكن دوما مفروشاً بالورود، وإن صح القول أنه سطر بالدم والاضطهاد، ويبدو أنه كان صعبا على البشر دوماً التجاوب مع من يطالبهم بتغيير أفكارهم عن الكون وعلاقة الإنسان والأرض به، ومن الأمثلة المشهورة في هذا المجال هو إعدام عالم الفلك "جوردانو برونو" في العام 1600، وبطريقة جعلت نسيانها أمراً مستبعداً.

ففي بداية 1590، عمت شهرة برونو وأفكاره الجديدة في الأوساط الثقافية في أوروبا، وباتت الكنيسة تنتظر الفرص للإيقاع به ولإحضاره إلى روما، وجرى استدعاء برونو في 1592 بحجة إسناد وظيفة تليق به. وما إن وطأت قدماه أرض روما حتى اقتيد إلى دوائر التحقيق بتهمة الهرطقة، وقضى سنواته الثماني الأخيرة حبيساً في قلعة "سانت أنجلو" حيث تعرض للتعذيب والتحقيق إلى أن حانت محاكمته. ولم يتراجع وواجه قاضي الكنيسة الكاثوليكية بقوله "ليس عليَّ أن أتراجع، ولن أتراجع"، وتحدى حكم الإعدام الذي صدر في حقه، فلم يغير موقفه وسلوكه. وتحدى من اتهموه قائلاً "حين تحكمون عليَّ بالموت، فإن خوفكم من هذا الحكم سيكون أكبر من خوفي منه". وفي مطلع 1600 أصدرت الكنيسة الكاثوليكية حكم الإعدام بحقه، ونفذ الحكم بسرعة. حيث ثقب لسان برونو بشوكة حديد، ووضعت شوكة أخرى في سقف حلقه. وصفّد فكه بحلقة معدنية، واقتيد عبر شوارع روما عارياً، ثم أحرق حياً في ساحةٍ عامة تسمى بـ"ميدان النَّار"، وبعد وفاة "برونو" شعر الباحثون بقيمة علومه وأبحاثه واعتبروه شهيداً للعلم، وتعبيرا من الكنيسة عن الندم قاموا بنحت تمثال له في روما وهو يقف بعزة وشموخ.

وإلى يومنا هذا، مازال هناك الكثير من أمثال برونو ضحايا لحرية الفكر والتعبير على الرغم من كل التطورات التي طرأت على حياتنا إلا أننا عالقون هناك في القرون الوسطى، فعلى الرغم من وجود بنود في دساتير الدول على المستوى العالمي تضمن حرية الرأي والتعبير إلا أنها لم تخرج عن إطارها الشكلي إلى حيز التطبيق، حيث الانتهاكات كثيرة لحرية التعبير في كثير من دول العالم التي يمنع في عدد منها إن لم يكن في معظمها الانتقاد الذي كفلته دساتيرها بوصفه حقاً للتعبير عن الرأي، حيث يسطر لنا على المستوى العربي - مثلا - الميثاق العربي لحقوق الإنسان في مادته الثانية والثلاثين بأنه يضمن هذا الميثاق الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير وكذلك الحق في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود الجغرافية. بينما جاءت مادته الثانية تنص على أن تمارس هذه الحقوق والحريات في إطار المقومات الأساسية للمجتمع ولا تخضع إلا للقيود التي يفرضها احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

فمتى سنُغادر قيود القرون الوسطى وننعم بحرية رأي وتعبير تنتعش به المجتمعات وينغمس بعدها المواطنون في نقاشات تسمح لهم بالوصول لأكثر الآراء قربًا للصواب.؟؟!

 

 

أخبار ذات صلة