أم كلثوم الفارسية
نتناول في مقالنا هذا ما قدمه الباحث-سابيستيان غونتر- أستاذ كرسي اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة غوتنغن بألمانيا، حول موضوع الربط المتناوب بين التعليم والأخلاق كما عكستْه التصوراتُ الإسلامية الكلاسيكية التي أفصحت عن العلاقات الواضحة ضمن علاقات أخرى مع مبادئ مفهوم التربية والتعليم اليوناني القديم، التي استقبلها المسلمون وطوّروها. ومن المهمّ تسجيلُ هذه الحقيقة، حتى لو كانت التصوّرات والحجج عن التعليم والأخلاق في العصر القديم ذات طابع فلسفي في المقام الأول، وبالمقابل ذات طابع ديني فالإسلام ما زال مستمراً حتى اليوم. وفي العصر الحالي أصبحت الوسائط الإلكترونية تُستعمل أكثر في النقاشات حول التعليم والأخلاق، وهي نقاشات راهنة تسيطر على المعنى الجوهري للشواهد الكلاسيكية عن التعليم والأخلاق من جهة؛ لكنها تعكس من جهة أخرى التحدّيات المتنوعة في سياق العولمة والهجرة، التي تواجه القوى الاجتماعية في العالم الإسلامي وفي الغرب أيضاً.
فالقواعد الأخلاقية تستحوذ على أهمية مركزية واضحة في الرسالة القرآنية بالمعنى التالي: يُفهم سلوك الإنسان كله على أنَّه عبادة لله وفعل إيماني. وقد نزل القرآن من أجل تعليم الناس الإيمان، وخشية الله والسلوك الأخلاقي، ومن أجل النهي عن رمْي النفس إلى التهلكة، لهذا أعطى الله الناس القدرة على التمييز بين من هو آثم وخاطئ ومن هو على حق. وتكتسي لائحة أوامر ونواهي الله التي تضمنها القرآن مكانة كبيرة؛ ذلك أنها تعدّ شهادة ميلاد الأخلاق السامية. هذه اللائحة للأوامر تذكّرنا من حيث المضمون والشكل بالمراجع الواضحة للوصايا العشر في الإنجيل.
فالجدير بالذكر أن موضوع العلاقة بين الأخلاق والتعليم من الموضوعات التي شغلت تفكير العلمـاء والتربـويين قـديما وحـديثاً، وحـاولوا فـي كـل مرحلـة فكريـة تقـديم التـصور المناسـب فـي رسم العلاقة بينهما وطرق معالجة الحاجة الأخلاقية للمجتمعات والتعليم، وتوصلوا إلى ضرورة أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تُعلي من شأن المثل العليا والأخلاق السامية، كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات، وتوفق بين الماديات والروحيات، وهل تكون الحياة آمنة يسودها الرحمة والسلام إذا كانت مادية، وكيف تكون الحياة دومًا تتجه إلى التنمية والتقدم والرخاء الرائع إذا لم تسر على هدي الروحيات؟ لن يستطيع الإنسان أن يرد عن الحياة آثامها وشرورها ومفاسدها إذا سار فيها على العلم وحده منصرفًا عن معاني الخير والجمال! بل كيف تكون الحياة سامية ذات إثمار إذا سيطرت عليها المادية من كل جانب؟ وهل يصفو عيش في جو مادي؟ وهل تستقيم حضارة بالمادية؟
لهذا فلا عجب إذا قام بعض المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا يدعون الناس إلى حركة إصلاحية غايتها الاتجاه نحو المعنويات والروحيات، والاهتمام بتكوين الخلق والأخلاق، وجعل الحضارة قائمة عليها لينقذوا الإنسانية من الشرور المحيطة بها، ويضعوا حدًا للمشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع، وهذا ما يجعلني أؤمن بأن العالم على الرغم مما هو فيه من تخبط سيتجه نحو الروحيات ونحو الاحتفاظ بمقام الروح فوق مقام المادة، ذلك أنه إن لم يفعل وسمح للمادة أن تسيطر غير آبهة بالخلق ومعاني الخير والكمال، فلن تقوم للحضارة قائمة، وسيبقى السلم مهددا والمثل العليا في خطر، والناس في قلق، والأفكار في اضطراب، والأعصاب في توتر، وتتضاعف مشاكل الإنسانية ومتاعبها، وتزداد تعقدًا والتواءً، فلا يخرج من فوضى واحتلال حتى يجابه فوضى واحتلالا أشد و أنكى؛ فلا اطمئنان ولا أمان ولا راحة ولا سلم، وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حد لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من المتاعب والصعاب المحيطة به من كل جانب.
فالعلم إذا دخل دائرة الخلق اتجه نحو الخير والبناء والنمو والإثمار، وإذا خرق نطاقها ولم يتقيد بها أصبح أداة شر وهدم وتدمير، وعلى هذا فمن صالح البشرية والحضارة أن يحيط الخلق بالعلم وأن يسيطر عليه ويرعاه ليسير به نحو الخير والكمال.
نتيجة لهذا مثّل الإسلام لأتباعه مجدّداً بنمطه الجديد والفطري والمتكامل حول الحياة حتى أصبح اسم المسلمين مرادفاً للتنوير والإنسانية والتقدم الفكري؛ حيث استندت التصورات عن أنظمة التفكير التي تمّت صياغتها في العصر الإسلامي الكلاسيكي عن التعليم والأخلاق إلى مبدأين: التعليم مدى الحياة بوصفه واجباً دينياً؛ ومبدأ الربط بين العلم والسلوك، متحدة مع المطلب الأخلاقي بأن العلم المكتسب يجب أن ينفع ليس الفرد وحده فقط، وعلى هذا الأساس تجلّت الأهداف الرئيسة للتّعليم والتعلّم الإسلاميين في تلقّي الإنسان تعليماً عامّاً متيناً، وتشرّبه للقيم الإسلامية، أو ترسيخ حياته وفاعليته فيها بثبات. ويجب على هذه الوظيفة المزدوجة لتلقين العلم واكتسابه في الإسلام أن تضمن أن يعمل الفرد بنشاط لما فيه خيرٌ لمحيطه الخاص، وأيضاً لمصلحة الجماعة. يعرف الفقيه أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت: 767 ) الذي ينتمي إلى العصر الإسلامي المبكّر مفهوم التعليم بتعريف يمثّل الطريقة التعليمية في الفِقه "معرفة النفس ما لها وما عليها"، أما في العصر الكلاسيكي الإسلامي، فيقول « العلم دون استخدام عملي يكون غير مثمر". وقد شرح برهان الدين الزرنوخي أو برهان الإسلام الزرنوخي (ت: حوالى 1223 ) المعروف بأعماله في مجال التربية أبرز المظاهر الأخلاقية المتأصّلة فيه للإنسان ألّا يغفل عن نفسه، ما ينفعها وما يضرها، في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها ويتجنب ما يضرها؛ كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه فيزداد عقوبة.
وخاتمة القول لا بد أن يقترن العلم بالأخلاق والقيم، حيث إن الخلق من النفحات الإلهية، به يكتب التوفيق وعليه تقام دعائم النجاح، والفرد بخُلقه لا بعلمه، وكذلك الأمم ليست بعلومها وفنونها، بل بأخلاقها وضمائرها ولا تصلح إلا بهما ولا تشاد عظمتها إلا عليهما.
