الأبعاد الاجتماعية والوجوديّة للثورة الرقمية، وتداعياتها الثقافية، والقيمية

أم كلثوم الفارسي

تشهد البشرية لحظة انعطاف لا مثيل لها بحكم انخراطها التدريجي في طور جديد، تعمل فيه التكنولوجيات على القيام بتعديلات جوهرية على الحياة الإنسانية بطرق أكثر جذرية مما شهدته مع اكتشاف اللغة والكتابة والمطبعة، وإن العالم يعيش ثورة صناعية جديدة تعمل على خلخلة أنماط الحياة والوجود.

وإذا كان الإنسان في الفترات السابقة بحث عن حلول تقنية لحل المشكلات (المطبعة، الفلاحة، المحرك البخاري، الكهرباء..) فإن ما نشهده اليوم من تحولات تكنولوجية غير مسبوقة يصعب التنبؤ الدقيق بمفعولاتها على المستقبل؛ فالبشرية قد انتظرت 38 سنة لكي تحصل على50 مليون مستمع للإذاعة، ولكنها انتظرت شهوراً قليلةً للوصول إلى 50 مليون مشترك في تويتر!!

من هنا نستعرض ما طرحه الأستاذ -محمد نور الدين أفاية- أستاذ الدراسات الفلسفية الحديثة في جامعة محمد الخامس، المغرب. من تساؤلات تدور حول الأبعاد الاجتماعية والوجوديّة للتكنولوجيا، وتداعياتها الثقافية، والقيمية وعن تمفصلات الاختلاف والائتلاف، والنظر في قدرات المُجتمع على التدبير الأنجع لهذه الأدوات، فتطور التكنولوجيات ولا سيما استخدام الإنترنت لا يُمكن الاقتصار في التعامل معه على زاوية طرق استعمال العُدة التقنية فقط؛ وإنما يتعيّن مواكبة طرق استقبال وفهْم وتصريف مضامينها، ودلالات الأفكار والقيم التي تموج في المسارات الشبكية، وتأثيرها على المواقف والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية (كما يحصل ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي...)، ومنتديات المناقشة و«البلوغات».

إننا نعيش مرحلة تخطّت مُفردات «الخطاب الطوباوي» عن الإنترنت الذي كان يُبشر بأفق إنساني ديمقراطي وتشاركي «فاضل»؛ بحيث نشهد كيف أن دولاً كبرى وظّفت العُدّة الرقمية لتوجيه اتجاهات تصويت ناخبين في أعرق الديمقراطيات (بريطانيا، أمريكا...)، وكيف تغلّب المنطق التجاري لمتعهدي الإنترنت الكبار على كل النواحي التي بشّرت بها الثورة الرقمية، وكيف تمكّنت جماعات التطرف العنيف بفضلها من توسيع دائرة الاستقطاب لأفكارها وتوجهاتها، وكيف عملت دولٌ على استخدام أدواتها للتأثير على مواطنيها ومراقبة أفكارهم واختياراتهم، وكيف تتسبب هذه العدّة التقنية في إضعاف الذاكرة، وتلويث الحواس، والتشويش على التفكير والتمييز، ونسيان الكائن، والتعايش مع تعبيرات متنوعة للاستلاب والتبعية. وتأكد من دون منازع أنَّ هذه العدّة تمتلك قدرات لا محدودة على تطويع الأذواق، وتوجيه السلوكيات، ومُراقبة الرغبات. وفي كل الأحوال فإنَّ التكنولوجيات الرقمية ليست سوى انعكاسٍ للطرق التي بها يستعملها الناس، بحكم أن تأثيرها على الثقافة والقِيَم لا يمكن فَهْمُه، حقّا، أو الإحاطة بسهولة بانعكاساتها على السلوك والمواقف خارج الفاعلين الذين يستعملونها، وخارج السياقات العامة التي يتم فيها هذا الاستعمال؛ ذلك أن هذه التكنولوجيات تخلق عالماً يتغير بسرعة فائقة من دون أن يعرف المرء بيقينية طبيعة الحاضر الذي يتشكّل أمامه، ولا نوعية المستقبل الذي سيحصل للإنسان والزمن والجسد والموت

وقد أنتج هذا المدّ الجارف للتكنولوجيات الرقمية نوعين متضاربين من المواقف، حسب الباحث Rémy Riffel «ريمي ريفيل» موقف مُتحمّس يشيد بالإمكانيات الخارقة التي توفرها الثورة الرقمية، ولا تكف عن ابتكارها وتطويرها من خلال الولوج المباشر(وغالباً ما يكون مجانيّاً) لكمية غير محدودة من المعلومات والمعارف والمعطيات، وما تسمح به من طُرقٍ جديدة للتواصل بين المنخرطين والمُبحرين في الشبكة العنكبوتية، وما تعرضه من تنوعٍ كبير في الاستعمال والاستثمار. ويرى المتحمسون لهذه الثورة أننا بإزاء "ذكاء ابتكاري استثنائي رقمي "يعبّر عنه الجيل المُنغمس في التكنولوجيا الذي يؤكد يوماً بعد يوم أننا نشهد إعادة تحديدٍ لطرق العيش والمعرفة، بل ونشهد على دخول البشرية إلى مرحلة مفصلية في تاريخها بواسطة هذا الاكتشاف الرقمي. غير أننا نجد في مقابل ذلك موقفاً مغايراً من التكنولوجيات يتميّز بنوعٍ من القلق بسبب السطوة التي بدأت تمارسها على حياة الناس وعلى الروابط الاجتماعية، وما تحدثه من تغييرات تظهر على العلاقات جراء الاستعمال المفرط لأدواتها، وبسبب الأشكال المختلفة للإدمان عليها فضلاً عن المخاطر التي تتعرض لها الناشئة، بسبب ما توفره المواقع المختلفة المشارب والمذاهب من مضامين ومؤثرات، وعمّا تتعرض له الحياة والمعطيات الشخصية من رقابة أو سهولة الكشف عنها. ويدعو بعض أصحاب هذه المواقف إلى النضال ضِدّ سيطرة التكنولوجيات الرقمية منها على وجه الخصوص على حياة الناس؛ لأنها تهدد العلاقات الإنسانية بسبب أشكال الفردانية التي تنتجها، ويدعون إلى التحرر من "الانبهار الرقمي" الذي يزج بالناشئة في نوع من،«العبودية الطوعية» والإدمان والاستلاب، وما تمارسه من تأثير على القِيَم والسلوكات والعلاقات وعلى الذاكرة. وفي هذا السياق يرى كل مِنْ "مارك ديغان" و «كريستوف لابي» أن المفارقات الكبرى للرقمي واستناداً إلى اجتهادات وبعض علماء النفس الأمريكيين تتمثل في كون الدماغ بمجرد ما يعرف أن معلومةً ما مُخزنَة في سجل ما يمتنع أي الدماغ عن تذكرها؛ لأنه ترسخ لديه أن جُهْد استحضارها لا جدوى من ورائه ما دام مطمئناً على استمرارية تخزينها؛ الأمر الذي يسهم بالتدريج في إضعاف الذاكرة، ويكون من محفزات النسيان.

 وعلى الصعيد الفكري والثقافي فقد عمل الرقمي على زعزعة اليقينيات والقناعات والعادات، وأنتج أخرى مختلفة من حيث موضوعاتها وأشكال التعبير عنها، وهو ما أفضى إلى تحولات ومخاطر، منها:

أ- اهتزاز المرجعيات التقليدية من الناحية الثقافية، إبداعاً،وإنتاجاً، ورواجاً.

ب- تقلّص أدوار المؤسسات الوسيطة والوسطاء في المجتمع، أو ضعف تأثيرهم.

ج- سطوة الآنية، ومقتضيات زمن المدى القريب، والتأثير الكبير للنواحي التجارية، الحاضرة بقوة في المواقع والشبكات.

وختاماً نؤكد أنَّ كل هذا التوصيف للعصر السيبراني الذي يشيئُ الإنسان، يبرز الحاجة إلى المراجعة النقدية، وإلى السير في مبادرة المؤتلف الإنساني، التي لا ينبغي اعتبارها بديلاً لهذا الزمان، بل هي تيارٌ نقدي يسعى لإنقاذ إنسانية الإنسان وأخلاقياته من التشييء، دونما فصاميةٍ ولا خروجٍ على عصر العالم. تيار المؤتلف، والمبادرات المشابهة، هي أعمالٌ ومساعٍ عصرية وإنسانية من أجل التعديل والتصحيح وتقديم إنسانية الإنسان على السوبرمان وعلى شعبوية الآلة، في الوقت نفسه.

أخبار ذات صلة