أحلام المنذرية
إنّ الإيمان بالرسل هو رابع ركن من أركان الإيمان، وهي مسلمات يتخذها كل من آمن بالله عزوجل، ولكن تبقى هناك تساؤلات لدى البعض حول صدق وجود الرسل وما دلالات ذلك. نتناول في هذا المقال أهم ما ذكره الكاتب والباحث فؤاد بن أحمد حول ما كتبه عن "سبل التدليل في نظرية النبوة" عند ابن رشد.
وردت مسألة النبوة عند ابن رشد ضمن المسائل الخمسة التي ناقشها في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة عن عقائد الملة" وهي إثبات خلق العالم، والقضاء والقدر، والتجويز والتعديل، والمعاد، وأخيرا بعث الرسل، وهي المسألة التي تهمنا في هذا المقال.
تقويم ابن رشد لرد المتكلمين: مثال الرسول
وقد ذكر الكاتب ما بسطه ابن رشد لحجة الأشعرية في إبطالهم أطروحة البراهمة ولتقويمه لها بعد ذلك، مستخدمين الأشاعرة آلية التمثيل في نظرية النبوة لإبطال حجج البراهمة الذين أنكروا وجود صنف من الناس يسمى بالرسل، مستخدمين القياس أو الاستدلال بالشاهد على الغائب، ويعنى ذلك أن" يجوز أن يبعث الله رسولا" في الغائب، لأنه " يجوز أن يبعث الله رسولا" في الشاهد، وقد علق ابن رشد أن الطريقة التي استخدمها الأشاعرة لإثبات وجود الرسل لا تتجاوز الإقناع الذي قد يتناسب فقط مع الجمهور من الناس؛ وذلك لاعتماده على الاستدلال التمثيلي، وقد أوضح ابن رشد استخدام القياس التمثيلي باعتباره دليلا خطابيا لا يصح "ذلك عند التيقن استواء طبيعة الشاهد بالغائب"، فقبل التصديق بوجود النبي، يجب التصديق بوجود الذي أرسل النبي، وبوجود علامات يختص بها الأنبياء وبها يعرفون. وقد حاول الأشاعرة الالتزام بشروط التمثيل فقد أدرجوا المعجزات معتبرين أن التصديق بالرسل عن طريق المعجزات علامة على وجود الرسل، ومن جديد يعترض ابن رشد على ما أورده الأشاعرة على اعتبار أنّ هذه العلامة هي ركن من أركان العملية التمثيلية.
في تقويم ابن رشد لدلالة المعجزة على النبوة
وفي تقويم ابن رشد لدلالة المعجزة على النبوة، يرى الكاتب أنّ مسألة بعث الرسل تنقسم إلى قسمين: أولهما مسألة إثبات الرسل، والثانية أنّ الشخص الذي يدعي الرسالة هو نبي وليس كاذبا، وقد استخدم ابن رشد قياسا استنباطيا لإثبات النبوة يحتوي على مقدمتين ونتيجة، على اعتبار أنّ كل من ظهرت عليه المعجزة فهو رسول، لابد أولا أن نعترف بوجود الرسول ومن ثمّ الاعتراف بوجود المعجزة، ولا تظهر إلا من كان صادقا وبما أنّه قول خبري، فالقول الخبري يحتمل الصدق كما يحتمل الكذب، وبما أنّ الأشاعرة قد اعترفوا بوجود الرسول في وقت من الأوقات مثلما هو الحال بنزول المطر أحيانا، لكانت الرسالة من الأمور الجائزة، ويمكن اعتباره مثالا كافيا لما يمكن أن يحصل للغائب.
ويختصر الكاتب في قوله إذا كانت النبوة وحيا من عند الله إلى الناس، فيجب قبل ذلك أن يعترف الخصم بوجود الله أولا حتى يمكن الحديث معه عن النبوة، أمّا إذا كان لا يؤمن بالله فكيف له أن يصدق بوجود الرسل.
التمثيل ودلالة المعجزة ومرتبتها من التصديق
ويدرج الكاتب في مقاله بأنّه من أجل تحديد علاقة المعجزة بالنبي، لابد أن يكون من صفاته وأفعاله ما يجعل العقل يدرك وجود علاقة بين الصفات والأفعال وبين كونه نبيا، ويرى ابن رشد مثلما يراه أرسطو واتباعه سابقا بأنّهم لم يضعوا المعجزات مسألة للفحص، وقد أضاف ابن رشد في "تهافت التهافت" أنّ التعرض بالفحص للمعجزات ووضع مسائل فيها هو من باب فحص ووضع الشكوك حول مبادئ الشرائع ومبادئ الموجودات ومبادئ الفضائل، وهو أمر مرفوض، فإنّه من الفضيلة عدم التعرض لهذه المبادئ بالسؤال والشكوك، ويرى ابن رشد أن هذه المعجزات ليست لتحدي المعاندين، غير أنّه يستثني معجزة واحدة فقط من بين باقي المعجزات في نظره مكانا للتحدي وهي معجزة القرآن الكريم، وهذا ما أدلى به في كتاب تهافت التهافت قائلا:" إذا تأملت المعجزات التي صح وجودها وجدتها من الجنس وأبينها في ذلك كتاب الله العزيز الذي لم يكن خارقا من طريق السماع كانقلاب العصا حيّة، وإنّما ثبت كونه معجزا بطريق الحس والاعتبار لكل إنسان وجد ويوجد إلى يوم القيامة، وبهذا فاقت هذه المعجزة سائر المعجزات".
التمثيل بالطب في إثبات النبوة
ويطرح الكاتب مثالا حول هذه المسألة، إذ أنّ أفعال النبوة مثل أفعال الطب: يستعمل التمثيل بفعل الإبراء باعتباره دليلا على صدق صناعة الطبيب، أي أنّه فعلا شاهد، مثلما هو الحال لوضع الشريعة بوحي من الله، على اعتبار هذا الفعل دليلا على صدق النبوة، ويضيف الكاتب ما أورده ابن رشد في كتاب الكشف" أنّ المعجز في العلم والعمل الدلالة القطعية على صفة النبوة، وأمّا المعجز في غير ذلك من الأفعال فشاهد له ومقوٍ" ، ويضيف الكاتب أنّ المعجز في المعرفة يعني أنّ الشرع كان نبوة وليس حصيلة تعلم بشري، بينما الأمر الخارق الذي ليس من جنس الشرائع مثل فَلْق البحر وغيره فليس يدل دلالة قطعية على هذه الصفة المسماة نبوة، وإنما يدل على اقتران إلى الدلالة الأولى.
ويرى الكاتب أنّ التمثيل بالطب في نظرية النبوة عند ابن رشد لم يكن ليخلو من مخاطر على مستوى التأويل ونتائجه: فالطب هو علم وضعي بشري قائم على الجهد والممارسة، ولكن وضع الشرع أن يكون عن وحي لا عن تعلم، وهذا ما يظهر هشاشة التمثيل.
تحولات في تاريخ التمثيل بالطب: التصديق الظني
ويقصد الكاتب هنا بالتصديق الظني التصديقَ الحاصل على القول الخطابي، الذي يستعين بالضمائر والأمثلة وبالشهادات والتحدي لتحصيل الظن. وهذا يظهر جليا ما ذكره جورجياس في مثال الخطيب والطبيب معتمدا ذلك رافعا من شأن الخطيب وقدرته على الإقناع لتناول المريض الدواء وأعلى من شأن الخطيب وكأنما لم يكن للطبيب فائدة، فهنا تنقلب حجة الخطيب لتصير قوته وهنا، وذلك لكونه يجهل الطب من جهة وصناعة تحفظ الصحة وتدفع المرض بأقصى ما في الجهد، ولا تنحصر فقط في حمل المريض على اتباع وصفة ما أو تركها.
ويبقى أن نشير إلى أن هناك فارقا أساسيا بين الطب والخطابة بقول ابن رشد" إنّ الطب إنما يعلم عن طريق البرهان ويقنع في الصحة والمرض ... أمّا الخطابة فهي تتكلف الإقناع في جميع الأشياء، في أي مقولة كانت وفي أي جنس كان".
التمثيل الخاطئ والتمثيل الصحيح
يشير الكاتب إلى أنّ التمثيل الصحيح هو الذي تظهر فيه نسبة فعل الشريعة إلى النبي مثل نسبة فعل الإبراء إلى الطبيب، وهو يقيني لأنه صحيح النسبة كما يظهر، أما التمثيل الخاطئ فهو القول إنّ نسبة فعل الإبراء بالنسبة إلى الطبيب هي نسبة الفعل المعجز إلى النبي، لأنه غير صحيح النسبة.
وختاما يرى الكاتب أنّ التمثيل بكل وجوهه كان الآلية التي حملت عليها أغلب أركان نظرية النبوة عند ابن رشد، وأنّ التمثيل ليس بالضروة انخراطا في علم الكلام وحده؛ إذ التمثيل آلية عقلية ذهنية يمكن الانشغال بها في مجالات معرفية وعملية شتى.
