أحلام المنذرية
لا بد لنا إذا ما أردنا صون المؤتلف الإنساني والعيش معا لمصلحة الجميع من درء سياسات التعصب الهوياتي، والعمل من أجل سياسات المشاركة والمساواة وحرية الأفراد واحترام التنوع. نذكر هنا ما ورد عن طارق متري في مقاله "المؤتلف الإنساني ونقد سياسات الهوية"، والمنشور في مجلة "التفاهم".
إذ يضعنا إعلان المؤتلف الإنساني أمام أسئلة كثيرة، ويشدد في الوقت نفسه على جملة من القيم، ستكتفي مداخلة الكاتب هذه، ومن وحي الإعلان بالبناء على المدماك الأخلاقي الذي وضعه، لننظر في مجادلة التماثل والفرادة، وممارسة الحرية في الاختلاف وقبول التنوع.
الاقتصاد الرمزي
والجدير بالذكر أنَّ الاقتصاد الرمزي وهو غير متصل مباشرة بالاقتصاد الفعلي، يؤثر أحيانا تأثيرا كبيرا في تحديد السياسات الاقتصادية والأوضاع المعيشية للناس، كما تغيرت صيغ تقارب الدول وتشاركها؛ ففي تقاربها وتشاركها تنازل طوعا أو كرها عن قدر كبير من صلاحياتها، وأبرز مثال على ذلك منظمة التجارة العالمية، ولعلها الأكثر نفوذا في العالم المعاصر.على صعيد آخر جرى توافق في الأمم المتحدة على مسؤولية حماية المدنيين التي تسوغ في الحالات القصوى التدخل بوسائل مختلفة عندما ترتكب دول انتهاكات لحقوق الناس على نطاق واسع.
التوحيد الثقافي للعالم
ويضيف متري أن العالم تغير بفعل عوامل عدة متزامنة ومتبادلة التأثير: أولها: الثورة في المعلومات، وثانيها: حيوية الشركات الكبيرة، وثالثها: النزعة القوية في الولايات المتحدة لكي تكون القوة العظمى والمهيمنة، كما نلحظ في المجال الثقافي عملية توحيد ثقافي للعالم تتم بواسطة أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام، وكذلك بواسطة السلع التي تسهم في إحداث أنماط استهلاكية، وهي جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة في عالم اليوم. ويذكر الكاتب أنه قرأ مرة كلاما لرئيس شركة عالمية كبيرة جاء فيه: "لم تعد غريبة البلدان التي كانت غريبة"
نرجسية الفروقات الصغيرة
هناك عملية توحيد ثقافية للعالم تبدو في بعض الأحيان قسرية فيراها بعض الناس مفروضة عليهم؛ لكن عملية التوحيد تسري بعض الأحيان من دون أن يعي الناس أنهم صاروا متجانسين مع من ينتمون في الأصل إلى ثقافة أخرى.
ويضيف متري من جهة أخرى عملية التوحيد الثقافي هذه تقوي عند الجماعات والأفراد أيضا الرغبة في التمايز؛ لأن الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين، فكلما ازداد ضغط التوحيد والتجانس وازداد فرضهما قوة ازدادت الرغبة في التمايز. وبقدر ما يشبه أحدنا الآخر، يريد أن يظهر تفرده، فيبحث أحيانا عن فروقات صغيرة تميزه، ويميل إلى تضخيمها وتعظيم شأنها.
ثمة حاجة لتوكيد الهوية الخاصة فردية كانت أم اجتماعية في عالم يبدو لنا أكثر تجانسا. يتحدث فرويد العالم النفسي الشهير عما يسميه "نرجسية الفروقات الصغيرة" أي أن يكون المرء متمسكا بفرق صغير يميزه عن غيره. كما تثير عملية التماثل الثقافي مسألة حرية الأفراد وحرية الجماعات، فبعضهم يعد التجانس الثقافي ميسرا لسعي الأفراد إلى تحقيق قدر من الحرية في علاقتهم بجماعات الانتماء التقليدية.
تأثير الأديان في ميادين السياسة والاقتصاد
من ناحية أخرى، لا شك أنه يوجد تزامن قرينة زمنية كما يسميها الأقدمون بين التكيف مع العالم المتغير والانقياد وراء الجدة فيه، ويقظة الروحانية الدينية بأشكالها المختلفة، ولقد ساد الاعتقاد حتى منتصف السبعينيات بأن تأثير الأديان هو إلى انحسار في حياة الناس، خاصة في الحياة العامة؛ أي في ميادين السياسة والاقتصاد، كما ساد الاعتقاد بأن المجتمعات تتعلم أو تتدهرن؛ بمعنى أنها تحقق قدرة أكبر من الاستقلال عن المؤسسات والرموز الدينية.
ويذكر الكاتب أنَّ المتدينين يخوضون معركة للحفاظ على الهوية الدينية وعلى حضور الدين في نواحي الحياة كلها، ولكنهم يجدون أنفسهم أمام سيل جارف يقود مجتمعاتهم نحو علمنة تخرج الدين من دائرة الحياة العامة.كما أن هناك تأثيرا للظواهر الجديدة التي توحد العالم، كما وصفناها وصفة أولية، على وضع الدين، أو على الحالة الدينية ويقظة الهويات. هناك عدة مجالات نستطيع أن ندرس فيها هذا التأثير؛ إلا أن مجالين منهما يستحقان الاهتمام بصورة خاصة.
المجال الأول هو: الظواهر الدينية الجديدة التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، غير أن هناك أيضا التعامل مع الأديان ليس بوصفها نظاما كليا متماسكا، بل بوصفها قطعة أو أجزاء قابلة للترتيب والتلفيق بحسب رغبة المرء، الذي يختار عناصر مختلفة من أديان عدة ليكون دينه الخاص. هذا النمط يقوم به بعض الأفراد في العالم المعاصر، وبعض الجماعات الدينية تتكون وفق منطقه؛ أي وفق منطق التلفيق والتوليف. ولا يعود المعيار، عندئذ، الأمانة للدين الموحی به والموروث، وهو معيار أهل الإيمان الذين ينتمون إلى أديان تاريخية.
المجال الثاني هو: انتشار الأديان في كل مكان، إنه لمن الواضح أن ثمة علاقة بين هذا التسارع في العشرين سنة الأخيرة وبين العولمة. كما راجت أيضا فكرة الشبكة، بحيث غدت شبكة العلاقات أهم من فكرة المعقل، وأضحى تجمع المسيحيين أو المسلمين في مكان على أرض واحدة أقل أهمية من السابق، ويظهر أمامنا سبيلان في مواجهة الظواهر الحاضرة يبدأ الأول من الجهد التحليلي، الذي يعلق الأحكام القيمية عند محاولة فهم ما يحدث في العالم المعاصر بمعزل عما إذا كنا مسرورين به أو مستائين منه، لينتهي بقبول ما يتعذر رفضه. أما السبيل الثاني فهو المعارضة الهوياتية، والتي تترافق أحيانا مع النقد الأخلاقي للعالم المعاصر باسم الرسوخ في الأصالة الدينية.
التنازع باسم الهويات
ومما لا شك فيه أن التنازع باسم الهويات على درجة بالغة من التعقيد؛ فنحن نتأرجح بين مصالحة هوياتنا المتنوعة أو إشهار الواحدة ونفي الباقيات، فبعض الدول تمنع التحريض العنصري مثلا وما يرافقه من إساءة إلى الآخر المختلف دينيا أو ثقافيا، وذلك رغم اعتراض القائلين بأن المسألة تتعلق بحرية رأي غير قابلة للتقييد. ولكن دول أخرى توسع نطاق الإساءة إلى المشاعر، فيصبح الحق في التعبير واختيار نمط الحياة مهددا. ولكن الإنسان العاقل يأخذ مشاعر الآخرين في الحسبان في تصرفه وسلوكه بل يحترمها، وهذه ليست مسألة إكراه؛ بل هي خيار أخلاقي ويتطلب ذلك جهدا معرفيا يدخل الواحد في عالم الفكر والخبرة التاريخية للآخر، فالجهد المعرفي وشرطه الاحترام لا يهدد الهوية ولا الإيمان ولا الجماعة الدينية مهما أثار من تساؤلات؛ أما الانتماءات فلم تنتقص من كرامتها وحيويتها عبر التاريخ الطويل أسئلة السائلين ومعرفة الدارسين.
وختاما.. لقد غالى الكثيرون في توظيف الرمزيات والمشاعر الدينية في خدمة الهويات، وتناسوا أن الخصوصيات الدينية لا تهدد بالضرورة الأساس الاجتماعي والثقافي المشترك للذين يعيشون على أرض واحدة، وفي عالم واحد تقوم العلاقات فيه على وعي بالمؤتلف الإنساني.
