هجرة جديدة إلى الإنسانية

أحلام المنذري

إنَّ التقاليد الخاصة بكل شعب لا يُمكن أن تصبح موضع معيارية مناسبة للتفاهم مع الآخر إلا متى تمَّت إعادة بنائها بشكل تداولي. نتطرق في هذا المقال إلى أهم ما ورد عن فتحي المسكيني في مقاله" من التداولية إلى المؤتلف الإنساني".

إنَّ ما يفهمه الإنسان عن معنى كينونته في العالم من معنى نفسه أو من معنى الآخر الذي يلاقيه في السياق الأداتي ينحصر فيما نستعمله أو ما نتداوله بيننا من أشياء، إن الفرق بين الشيء الكائن المحايد إزاءنا والشأن الكائن المتورط في علاقة تأويلية معنا هي المسافة التداولية التي يجب على المتكلم أن يجتازها من أجل فهم صلته بالآخر، ولكن لا يُمكن الحديث عن لغة شخصية إلا إذا كانت أصواتا كي يفهمها الآخر. إن اللغة هي أول مؤسسة للآخرية. ويقترح فتغنشتاين مثال «الألم» لاختبار فكرته؛ فنحن لا نشعر بآلام الآخرين إلا لغويا، إن ألمي خاص بي لكن ألم الآخر لا يمكن أن يكون بالنسبة إلي إلا سلوكا لغويا.

  •  لغة الإنسان ماهية روحية

 ويذكر الكاتب ما كتبه ولتر بنيامين حيث يقول:«كل تواصل للمضامين الروحية هو لغة بحيث لا يكون التواصل عبر الكلمة إلا حالة خاصة»، إن الماهية اللغوية للإنسان هي لغته، ذلك يعني أن الإنسان إنما يفصح عن ماهيته الروحية الخاصة في صلب لغته؛ لكن لغة الإنسان تتكلم في الكلمات، ومن ثم فإن الإنسان يفصح عن ماهيته الروحية الخاصة بقدر ما هي ماهية مباشرة عندما يسمي كل الأشياء الأخرى، ولا يدخل في ماهية الإنسان إلا ما هو لغوي؛ لكن ما هو لغوي لا يصبح إنسانيا إلا عندما يحتوي على ذاته، أي على ماهية روحية تخصه.

  • ما هي التداولية الكونية؟

إن مهمة التداولية الكونية هي أن تحدد الشروط الكونية لأي تفاهم ممكن وأن تعيد بناءها، وفي سياقات أخرى يتكلم المرء أيضاً عن الافتراضات الكلية للتواصل. كما توجد قاعدة صلاحية الكلام وتتمثل هذه القاعدة في المفترضات الكونية لأفعال الكلام التي من شأنها أن تنجز عملية التوافق بين المتحاورين، وذلك يعني داخل جماعة يجتهد كل مشارك ضمنها في أن يكون فاعلا تواصليا مع سائر المشاركين.

 ويضيف الكاتب أنه لا يدخل أحد في مسار التفاهم إلا إذا قبل تأمين مجموعة من الادعاءات الكونية بواسطة جملة من أفعال الكلام، وهي عند هابرماس عملية مؤلفة من أربع خطوات يحققها ذلك الفاعل التواصلي وهي: أن يعبر عن نفسه بشكل قابل للفهم، ويقدم شيئاً ما من أجل الفهم، ويجعل نفسه بذلك مفهومة، وأخيرا يتفاهم الواحد مع الآخر.

يقول هابرماس:إن هدف التفاهم هو التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يفضي إلى الأرضية البيذاتية المشتركة، التي يقوم عليها الفهم المتضافر والمعرفة المتقاسمة والثقة المتبادلة والتآلف الواحد مع الآخر. إن التفاهم هدفه إنتاج نوع معين من المتفق عليه حتى يصبح التواصل ممكنا. وهو متفق عليه لغويا؛ أي يتحقق عبر أفعال كلامية توصلت إلى رسم أرضية مشتركة بين ذوات متساوية انتقلت من الخطاب المنفرد بنفسه إلى الخطاب القادر على الفهم المتضافر، الذي تنجزه ذوات تبادل أفعال الكلام من أجل الوصول إلى اتفاق.

  •  شرعنة التآلف:الكرامة الإنسانية بوصفها معيارا للكونية

ويقرأ هابرماس العنصر الإنساني بوصفه مهيكلا باللغة، على نحو يجعل كل ما يقوله أو يفعله عبارة عن فعل تواصلي موجه نحو التفاهم بين ذوات فاعلة ومتكلمة. كما أنه لا توجد دلالة ذاتية للوجود الإنساني تكون بمعزل عن الصلاحية التداولية لما يقوله عن نفسه أو الآخرين.

إن رهان أي تفاهم هو بناء اتفاق تداول حول نوع ادعاءات الصلاحية التي تقيم عليها خطابنا حول أنفسنا أو تجاه الآخرين، إن الحديث عن مؤتلف إنساني أي عن حقل تداولي مشترك بين جميع المشاركين في الجماعة التواصلية غير ممكن من دون فكرة واضحة عن الإنسانية، وقد اقترح كانط فكرة «أخلاق كونية» أو مواطنة العالم بوصفها أساسا قانونيا مناسبا لجمع البشر حول قيم كونية مشتركة تؤلف بينهم.

ما نظفر به من هذا التبيين هو الاعتراف المتبادل في معنى الاحترام المتساوي والاعتبار المتبادل تجاه أي واحد من النَّاس بدلاً من التسامح، الذي هو راسب تقليدي خاص بالمدونة الدينية، التي هي أثر أخلاقي يعود إلى آداب وثنية قديمة، يقترح هابرماس التجرؤ على تطوير أخلاق عقلية حيث يكون العقل هو البؤرة التداولية للخطاب الذي يقوم على الفعل التواصلي، وبهذا الإقرار فقط يمكن تأسيس أخلاق عقلية ليس لها من مضمون معياري سوى الاعتراف المتبادل بين الأفراد الذين يحملهم التساوي فيما بينهم على الاحترام المتبادل تجاه أي واحد من الناس.

هذا التأكيد على صفة أي واحد من الناس هو العلامة الكونية. إن الكرامة الإنسانية كل لا يتجزأ، لكن الأمر الأخطر هنا هو معاملة الشخص الإنساني وكأنه مجرد قيمة أخلاقية تحت تصرف السلطة بلا أي سند قانوني.

إن تطوير نزعة كونية صحيحة يتطلب قبل كل شيء تحرير مفهوم الكرامة الإنسانية من سياقات الفهم التي تشوهه، وعلى الرغم من أنَّه مفهوم عرفه القدماء؛ فهو لم يدخل في نصوص القانون الدولي إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ لم يوجد لا في إعلانات حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر ولا في تشريعات القرن التاسع عشر. وهو ما قاد هابرماس إلى التساؤل بشكل صريح: «لماذا كان الكلام في القانون عن حقوق الإنسان أسبق بكثير من الكلام عن الكرامة الإنسانية؟

يشير هذا السؤال إلى التمييز الإشكالي بين معنى الكرامة الإنسانية من جهة، وبين إعلانات حقوق الإنسان من جهة أخرى؛ إذ يبدو أن علينا أن نقطع المسافة الفاصلة بينهما بوصفها هوة معيارية حقيقية بين التكريس الأخلاقي للإنسانية وبين مجرد قوننة حقوق الإنسان أو دسترتها.

إن الحداثة لم تعرف منذ القرن السابع عشر غير حقوق الإنسان؛ لكنها لم تطرح مسألة الكرامة الإنسانية. كانت أوروبا مغلقة على نفسها ولا تحاور غير نفسها؛ أما منذ الحرب العالمية الثانية فإنَّ أوروبا أصبحت طرفا ثقافيا، وليس أفقا متعاليا لإنتاج المعنى. فقد كانت حقوق الإنسان متعلقة بترسيخ جهاز الذاتية وفرضه، بوصفه الشكل الحقيقي للإنسانية.

  • ختاما في نزع الطابع الريفي عن كونية الغرب

إن أخطر نقد وجه إلى نظرية الفعل التواصلي التي أنجزها هابرماس هو أنها نظرية غير مُوجهة إلى غير الغربيين، كما أنها ذات «طابع ريفي». ومن ثمَّ ظهر نمط من النقد ينادي صراحة بنزع الطابع الريفي عن هابرماس وعن حقه التداولي؛ إذ هو أيضاً مفكر ريفي. في مقابل ذلك يعترف هابرماس بأنَّ أفضل السبل المتاحة بين أعضاء نادي الإنسانية هو تأسيس خطاب تثاقفي حول حقوق الإنسان، من شأنه أن يرسم ملامح المؤتلف الإنساني فيما بين البشر.

وأخيراً فإنَّ التحرر من وطأة السياق الثقافي الخاص بكل شعب لا يُمكن أن يتحقق من دون الاتفاق على أنَّ مناويل العقلانية التي تهيكل أفعال التفاهم بين المتحاورين هي من طبيعة تواصلية، وليست من طبيعة أداتية.

 

 

أخبار ذات صلة