فيصل الحضرمي
يتطرق الباحث المغربي محمد علا في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "نظرية المعرفة والحاجة إلى المنهج التركيبي التكاملي" إلى القصور الذي يعتور نظرية المعرفة بشكلها الحالي، المادي والتبسيطي، ويستعرض الأسباب الداعية إلى استحداث نظرية معرفة إسلامية، تنهل من الوحي، وترتكز على مبدأ التوحيد، وتراعي تركيبية وتعقيد الظواهر المدروسة.
ويستهل الباحث مقالته التي جاءت في خمسة محاور ببيان أنّ تاريخ العلم، من حيث هو تراكم معرفي مطرد، تاريخٌ قائم على تصحيح الأخطاء، وتصويب مناهج التفكير والتحليل التي كان لها إسهام كبير في سيرورة العلم وتطور المعرفة. كما ويشير إلى الجهود العلمية الكبرى في مجال الابستمولوجيا ونظرية المعرفة، بدءاً بمنطق أرسطو، ومروراً بمنهج ديكارت وأورغانون فرانسيس بيكون، وانتهاءً بنظرية البراديغم لتوماس كون، والتي حلت محل نظرية المناهج في العلوم، وقدمت منظوراً جديداً لتفسير الاكتشافات العلمية وتقدم المعرفة.
وفي المحور الأول المعنون بنظرية المعرفة وإشكالية المنهج، يشير الباحث إلى أهمية المناهج المعرفية وآليات التحليل، وكونها حجر الأساس في عملية دراسة الظواهر المختلفة دراسة علمية دقيقة، وكيف أنها تختلف باختلاف طبيعة الظواهر قيد البحث، كما باختلاف الحصيلة المعرفية الموجهة لها. لكن عملية تحديد المنهج المناسب لحقل معرفي ما ليست بالأمر الهين، وصعوبتها، كما يخبرنا الباحث، ناجمة عن كون اختيار المنهج جهداً بشرياً متأثراً بعوامل مختلفة، بعضها يرتبط بالذات، وبعضها بطبيعة الموضوع قيد الدراسة، وبعضها الآخر بالآليات المساعدة.
فذات الدارس للموضوع، على سبيل المثال، خاضعة لما يسميه الباحث "حتمية التحيز"، إذ لا يمكن فصلها عن تأثيرات التكوين النفسي، والخلفية الأيديولوجية، والملكات المعرفية، والرؤية الفلسفية للحياة. إنّ هذه المتغيرات تمثل دلالة واضحة على تعقيد ودينامية العمليات المتعلقة بالمعرفة. من هنا دعوة الكاتب إلى تأسيس نظرية معرفية تراعي كافة الجزئيات الفاعلة في منظومة المعارف المدروسة، وتستحضر تركيبية الظواهر وتعقدها، وتنأى بنفسها عن التبسيط والاختزال، وعن التخندق الأيديولوجي، والأطر المقيدة للإبداع الفكري.
أما المحور الثاني، فقد تناول فيه الباحث مباحث نظرية المعرفة ومكوناتها. والسمة الأولى لمباحث نظرية المعرفة هي تعدديتها وتشعبها في مختلف الحقول والمجالات المعرفية. ولما كانت نظرية المعرفة تنتمي إلى حقل الابستمولوجيا، فقد جعلها هذا الانتماء أكثر تعقيداً وتركيبية، كما أضفى عليها مسحة معرفية تجريدية جعلتها قادرة على اختراق مختلف الظواهر الإنسانية والطبيعية. لذا، تهتم نظرية المعرفة "بطبيعة المعرفة الإنسانية، وأنواعها، وإمكانياتها، ومصادرها، ومجالها، وحدودها"، كما تسعى للتصدي لأسئلة من قبيل "ما المعرفة؟"، و"ما الذي بإمكاننا معرفته؟"، و"كيف نعرف ما نعرفه؟".
وفيما يخص مبحث "طبيعة المعرفة"، نجد أنّ المقاربات تتباين فيما بينها. فهناك الاتجاه الواقعي الذي يُعنى بتحقق الأشياء خارج الذات المدركة، وعكسه الاتجاه المثالي الذي يركز على المعرفة المتحققة في العقل بصرف النظر عن تحققها في الواقع الخارجي، وهناك أخيراً الاتجاه البراغماتي، النفعي، الذي يهتم بما تعود به المعرفة من نفع وفائدة. كما تتباين الاتجاهات فيما يتعلق بمصادر المعرفة، فهناك الاتجاه التجريبي، الحسي، الذي يحصر مصدر المعرفة البشرية في الحواس والتجارب، وهناك الاتجاه العقلي الذي يحصرها في العقل وحده، وهناك الاتجاه النقدي الذي يحاول الجمع بين الاتجاهين السابقين، وهناك الاتجاه الحدسي الذي يجعل الحدس، أو البصيرة والتأملات الداخلية، المصدر الأساس لتحصيل المعرفة.
وفي ثالث محاور المقالة، يلفت الباحث النظر إلى أنّ التصور الكوني السائد اليوم يرفض كل ما هو غيبي، ولا يعتد إلا بما يمكن دراسته بالملاحظة العلمية الدقيقة. وهذا ناجم عن طبيعة السياق التاريخي الذي نشأت في كنفه نظرية المعرفة، وهو سياق لم يكن للعلوم الطبيعية والاجتماعية أن تزدهر فيه لولا القضاء أولاً على نفوذ المسيحية وسلطة رجالها على المجتمع الغربي. ويعزو الباحث تعميم العداوة بين العلم والدين بكافة أشكاله فيما بعد إلى شيوع الاختزال والنظر التبسيطي في العلوم الغربية.
وبحسب كاتب المقالة، فقد انبثق عن العلوم الإنسانية الغربية تصور قاصر لحقيقة الإنسان ترتبت عليه مجموعة من التداعيات، أهمها: "تقزيم حقيقة العلم ووظيفته"، و"انفصاله عن القيمة الأخلاقية والدينية"، وسيطرة المناهج البحثية الكمية القائمة على الإحصاء والقياسات، على حساب المناهج النوعية، في مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعية. في حين يرى الكاتب أنّه في الدراسات النفسية، مثلاً، ينبغي مراعاة العناصر غير المادية، كالأشواق والروح والغيب، وسواها، وأنّ إدماج مثل هذه العناصر في البحوث المعرفية شكل تحدياً تصدى له الفكر الإسلامي عبر ترسيخ تصور للإنسان يستمد مرجعيّته من نصوص الوحي، ويمثل بالتالي منطلقاً للحركات الفكرية الطامحة إلى أسلمة المعرفة.
ويخصص الباحث المحور الرابع للحديث عن مرتكزات المنهج التركيبي التكاملي. فلا بد لأي نظرية معرفية إسلامية من الارتكاز على الوحي ومفاهيمه الكبرى، كالتوحيد، والاستخلاف، والتكريم، والأمانة، والعبادة، وغيرها، والتي لا تعدو أن تكون عناصر ميتافيزيقية في أدبيات نظرية المعرفة بصيغتها الوضعية المادية. ويشدد الكاتب على الاختلاف الجذري بين النظام المعرفي التوحيدي الإسلامي وبين النظام الغربي. ويتجلى هذا الاختلاف في المبادئ التي يرتكز عليها النظام الأول، فالحقيقة عنده تشتق وجودها من الله، مثلما تشتق معناها من إرادته، كما أنّ فاعلية الحقيقة في هذا النظام تقاس بمقتضى تحقيقها للقيمة من عدمه.
ويناقش الكاتب في خامس محاور المقالة تجليات المنهج التركيبي في مسائل نظرية المعرفة. فتبني نماذج تحليلية متعددة الأبعاد يستمد مشروعيته من تركيبية الواقع وتعقد الظواهر الإنسانية. كما أنّ العلم، من وجهة النظر الإسلامية، طرفٌ في منظومة نسقية متكاملة تتداخل فيها عناصر أخرى كالدين والأخلاق وقيم العدل والحرية. وتتجلى تركيبية وتكاملية الرؤية التوحيدية الإسلامية في العلاقة التظافرية بين العقل والوحي. فبالرغم مما للعقل من أهمية في الإسلام، إلا أنه يظل بحاجة للوحي للحد من آفتيه المتمثلتين في الشطط في عالم الشهادة، والقصور عن إدراك حقائق عالم الغيب.
ويرى الباحث أن أهم مميزات المنهج التركيبي التكاملي تكمن في رده الاعتبار للجوانب النفسية والشعورية في دراسة الظواهر الإنسانية، وفي سده للفجوات والقطائع الأبستمولوجية التي أحدثتها المراجع الغربية بذريعة "العلمية وادعاءات الواقعية". وفي خاتمة مقالته، يعود الباحث للتنويه بالارتباط الوثيق بين نظرية المعرفة والأنساق والمرجعيات، وهو ما يعني أنّ أي نظرية للمعرفة تنبثق من النسق الإسلامي لا بد لها من أن تتحيز لمرجعية الوحي المتعالية، وهو تحيزٌ من شأنه الانفتاح على المقاربات المختلفة لنظرية المعرفة بغية تقويمها وتصويبها.
