الجنوسة وتمثلاتها في العالم العربي

فيصل الحضرمي

يستخدم مصطلح "الجنوسة"، أو "الجندر"، أو "النوع الاجتماعي"، كمُقابل للمصطلح الإنجليزي "Gender" الذي يُشير في حقل العلوم الاجتماعية إلى مجموعة الصفات والأدوار الممنوحة للجنسين ثقافياً واجتماعياً، كتمييزٍ لها عن الصفات المكتسبة بيولوجياً لحظة الولادة. وكان عالم النفس الأمريكي جون ماني أوَّل من نقل الكلمة من حقل اللسانيات إلى حقل العلوم الاجتماعية للدلالة على المعنى المشار إليه منذ منتصف القرن العشرين، غير أنَّ شيوع المصطلح سيبدأ مع سبعينيات القرن نفسه حيث سيكثر استخدامه من قبل الحركة النسوية التي عرفت أوج نشاطها في تلك الفترة.

والجنوسة في نفس الآن هي مفهومٌ ورؤيةٌ وأداةُ تحليلٍ وتفكيكٍ ناجعة للخطابات الإبداعية والثقافية والسياسية والتعليمية في مُجتمعٍ من المجتمعات، ومن هنا اتساع نطاق دلالاتها، وصعوبة وضع تعريفٍ دقيقٍ لها. وفي الوطن العربي لفَّ مفهوم الجنوسة الكثير من الغموض، واختلف النَّاس في فهمه وطريقة تلقيه، فتضاربت آراؤهم حوله، وتباينت ردود فعلهم حياله. وفي السطور التالية سنستعرض ما كتبته الأكاديمية والناقدة المغربية زهور كرام حول الجنوسة وتلقيها في الوطن العربي، في مقالتها المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "الجندر: المفهوم، والمُقاربة العربية".

تستهل زهور كرام مقالتها ببيان وفرة الدراسات والأبحاث حول المرأة مقارنةً بما يُكتب عن الرجل، وذلك نظراً لموقع المرأة الإشكالي في الثقافات المُختلفة، إذ تحضر فيها عادةً بصفة الموضوع المفعول به، لا بصفة الذات الفاعلة. وتشير إلى أنَّ بقاء المرأة موضوعاً للبحث والسؤال يعكس ضرورة تحليل الخطاب الثقافي والاجتماعي الحافل بالتنميطات المجحفة بحق المرأة، وضرورة زعزعة المستنسخات المتوارثة عنها في الذهنية الجماعية.

في هذا الإطار يُمكن وضع الجهود المبذولة دولياً، والمتمثلة في المؤتمرات والمُنتديات المختلفة التي تبنت قضية المرأة، وسعت إلى مساواتها بالرجل، ورد الاعتبار لها في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية. وهي جهودٌ كان محركها الأول ارتفاع الوعي بقضية المرأة، والنشاط الكبير للحركات النسوية في العقد  الثامن من القرن الفائت. وأشهر هذه المُؤتمرات مؤتمر المكسيك 1975، ومؤتمر كوبنهاغن بالدنمارك 1980، ومؤتمر نيروبي 1985، ومؤتمر بكين 1990 الذي تمخضت عنه "وثيقة ومنهاج عمل بكين" المتعلقة بتعزيز المساواة بين الجنسين، وسبل تحقيقها. وقد كان لهذه المؤتمرات الأربعة الأثر الأكبر في تعزيز نشاط الحركات النسوية في العالم.

وفيما يتعلق بمفهوم "الجندر" وسياق ظهوره، أشارت الكاتبة إلى اللبس الحاصل في فهمه نتيجة غياب التعريف الواضح له رغم أنَّه يُمثل محور اهتمام الأمم المتحدة بقضية المرأة. وقد ظهر مصطلح "الجندر" أولاً في السياق الفكري والمعرفي، وذلك من خلال كتابات المرأة التي عبرت فيها عن الدونية التي تُعامَل بها في الحياة العامة، كما في التصور الثقافي والذهني للمُجتمعات، والذي ينتقص من قيمتها، ويجعلها عاجزةً عن أن تكون مساويةً للرجل. وفيما بعد، وتحديداً في عام 1994، سينتقل مفهوم "الجندر" إلى السياق الحقوقي، إذ سيرد بوصفه مفهوماً حقوقياً لأوَّل مرة في وثيقة المؤتمر العالمي للسكان المُنعقد في القاهرة. ويُمكن رصد "الهوية الجندرية" في تمثلاتها المختلفة عبر الخطابات الرمزية المبثوثة في الأشكال التعبيرية والفنية، وفي الأدوار المنوطة بالجنسين في المجال الاقتصادي والمجال السياسي  والمجال الاجتماعي. فمن خلال هذين المدخلين، الرمزي والمادي، يشكل المُجتمع "الهوية الجندرية" للرجل والمرأة، ويُحدد للمرأة معناها ودورها في المجتمع والحياة عموماً. وقد أسهم حضور مصطلح "الجندر" في مختلف الحقول المعرفية؛ كعلم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات والأدب والتاريخ وغيرها، في جعله أداةً تحليليةً لقضايا المرأة في كل واحدٍ من تلك الحقول، كما منحه غنىً معرفياً مكنه من توسيع مجالات اشتغاله، وخلق منه مقاربةً متعددة المناهج. هكذا أصبح "الجندر" أداةً أساسية للقضاء على اللامساواة بين الرجل والمرأة، ومفهوماً تنموياً، وبرنامج عمل في مختلف القطاعات؛ كالقطاع اللغوي، والتعليمي، والاجتماعي، والبيئي، وسواها.

بعد ذلك انتقلت الكاتبة إلى الحديث عن تمثلات مصطلح "الجندر" في العالم العربي، وكيفية استقبال المتلقي له. فقد كان هناك تباينٌ كبير في تمثل واستقبال "الجندر" بسبب اختلاف المنطلقات الفكرية والعقائدية للمتلقين العرب. فقد وجدت فيه مُعظم الحركات النسوية دعماً للنضال التاريخي من أجل المُساواة بين الرجل والمرأة، وإلغاءً لمختلف أشكال التمييز بينهما، في حين توجست منه تيارات واتجاهات أخرى، نسوية وفكرية واجتماعية، وذهبت إلى أن له انعكاساتٍ خطيرةً على الأسرة والعلاقات الاجتماعية التي ستشهد تبدلات غير محمودة، وعلى مؤسسة الزواج التي ستعرف نماذج جديدةً للزواج من قبيل زواج الشواذ وغيرهم. وما يُثير حفيظة هذه التيارات أن "الجندر" برأيهم يتجه إلى التماثل بين الجنسين عوضاً عن المساواة بينهما، خصوصاً وأن الهوية الجندرية لا تحتكم إلى الشرط البيولوجي، ويمكن للمرء بالتالي أن يتخذ لنفسه هوية جندرية جديدة وفق ظروفه النفسية والاجتماعية.

وبحسب الكاتبة فإنَّ الاهتمام بالجندر في التجربة العربية يتجلى تحديداً في الدراسات الجندرية والأدب النسائي. فمفهوم "الجندر" والدراسات النسائية عموماً تحظى باهتمام الجامعات العربية التي أدرجتها ضمن برامجها الأكاديمية، كما باهتمام المراكز والمعاهد المختصة بقضايا المرأة، كمعهد الدراسات النسائية في العالم العربي التابع للجامعة اللبنانية، ومركز دراسات المرأة بالجامعة الأردنية. وكنتيجة لهذا الاهتمام ظهرت عدة أبحاث حول المسألة الجندرية، مثل كتاب "الجندر والأبعاد الاجتماعية" للباحثة عصمت محمد حوسو، الذي تربط فيه "الجندر" بمفهوم المساواة وتنأى به عن مفهوم التماثل، وكتاب "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسوية"، للكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة، والذي يُعد مثالاً جيداً على الدراسات التي تتناول مفهوم "الجندر" انطلاقاً من أطروحة "تأنيث اللغة"، باعتبار أنَّ اللغة حاملةٌ للتمييز بين الجنسين، وتحريرها من الهيمنة الذكورية خطوةٌ أولى في هذا الصدد.

أما فيما يتعلق بالأدب النسائي، فإنَّ الكاتبة تعده أبرز خطاب يتجلى فيه الجندر بصفته "منظوراً اجتماعياً وثقافياً، وأداةً لتحليل الخطاب الثقافي". فالأدب هو الحاضن الأبرز لمختلف التصورات والتمثلات، والمرأة حين تلج هذا العالم فإنِّها تُؤسس لتصورات جديدة، وتعيد تشكيل العالم والذات والمجتمع وفق منظورها الخاص، ووفق موقعها الجديد كذات فاعلة، فتطرح بذلك دلالات غير مألوفة للمفاهيم المتعارف عليها، وتسهم كتابتها في تشكيل وعي وإدراك جديدين. وتستشهد زهور كرام بأعمال الكويتية ليلى العثمان التي تندرج ضمن الكتابات الأدبية التي تنشد تفكيك الذهنية الذكورية. وتجد في تقديم القاصة الكويتية للمحاكمة، بتهمة خدش الحياء العام، تمظهراً واضحاً للجندرية، حيث تتجلى في خطاب التمييز بين المرأة والرجل، كما في التَّعامل مع الإبداع الرمزي للمرأة بالتصورات الاجتماعية والثقافية القارة.

أخبار ذات صلة