فيصل الحضرمي
في مقاله المنشور بـ"مجلة التفاهم"، تحت عنوان "العدل والأخلاق في المؤتلف الإنساني"، يتطرَّق أستاذ الفكر السياسي بجامعة طنطا المصرية الدكتور ياسر قنصوة، إلى ما تُمثله قيم العدل والمساواة والحرية، والمبادئ الأخلاقية عموماً، من ركائز أساسية للمؤتلف الإنساني الذي بات اليوم ضرورة ملحة لشعوب العالم؛ باعتباره الضمانة الوحيدة لجعلها ترتفع فوق ما يفرق بينها، لتلتقي جميعاً على أرضية مشتركة يسودها التفاهم والانسجام، وتتوثق فيها عرى الصداقة المنشودة.
وكما يذكر كاتب المقال في مطلعها، فإنَّ غاية ما يصبو إليه "المؤتلف الإنساني" هو الوصول لتحقيق الأمن الإنساني، مُمثلاً في تحرير الإنسان من الخوف والحاجة. غير أنَّ هذه الغاية يمكن عدها وسيلةً في ذات الوقت؛ إذ لا يُمكن للقيم والمبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها المؤتلف الإنساني أن تتحقق على أرض الواقع إلا انطلاقاً من توافر الأمن الإنساني؛ فانعدام الأمن والانتقاص من كرامة الإنسان عائقان كبيران أمام التطلع الأسمى الرامي إلى جعل هذا الإنسان متفهماً للإنسان المختلف عنه، وقادراً على التعايش السلمي معه في إطار الاحترام المتبادل.
ويُفرِد الكاتب الصفحات الأولى من مقاله لمفهوم العدل، كونه "أسمى الغايات الأخلاقية عند الإنسان". وبدايةً، فإن للعدل معانيَ لغويةً متعددةً، فهو الإنصافُ، بإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه، وهو مساواة الشيء بالشيء، وهو الموازنة بين شيئين، وهو أيضاً الحكم بطريقة عادلة. وباعتباره مصطلحاً، فإن "العدل" صفةٌ يرادفها الاسم "عدالة"، ويُقصدُ بالعدلِ المضبوط والصواب، والعادل من يرعى حقوق غيره، غير خاضعٍ لميوله وأهوائه، وإن حكم لم يظلم ولم يجُر. ويشير الكاتب إلى وجود وجهين اثنين للعدل؛ هما: "الشكل" و"الجوهر"، فليس العدل محض وسيلةٍ وأمرًا إجرائيًّا (شكلاً)، بل هو أيضاً جوهرٌ ومضمونٌ ينبغي نشدانه.. هكذا يكون هناك نوعان رئيسان للعدل، هما: العدل الإجرائي، والعدل الاجتماعي أو الجوهري.
ويستعرض الكاتب بعد ذلك أهم المقولات الفلسفية حول ماهية العدل، منذ العصر اليوناني وحتى اليوم. فقد نفى أفلاطون في محاورة ثراسيماخوس أن يكون العدل هو "مصلحة الأقوى" كما يزعم الأخير، مقرراً أن العدالة هي "احترام التسلسل الاجتماعي والوضعي، وأن يقوم كل واحد في المدينة (الدولة)، ومن أجلها، بوظيفته المتفقة مع مؤهلاته". فليست العدالة عند أفلاطون إلا "بقاء كل واحد في مكانه"، أما الظلمُ فيقع حين يُنتهك التسلسل والتخصص. وبحسب الكاتب، يتشابه هذا التصور مع الفكرة الإقطاعية عن الطبقات الثلاث للمجتمع القروسطي، والمتمثلة في طبقات الكهنة والفرسان والمزارعين، وهو تصور قائمٌ على فكرة أرستقراطية لا يمكن أن تتلاءم مع أنماط الفكر الحديث. لكنَّ أيًّا ما كان موقفنا من رأي أفلاطون حول العدل، فإنه لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الناس لا يولدون متساوين، وأنهم متفاوتون جسديًّا وعقليًّا ونفسيًّا. ومن هنا، تتجلى أهمية تحصين العدل شكلاً ومضموناً، ما دمنا نقر بأهمية حضوره في المؤتلف الإنساني. ويتأتى تحصين العدل شكلياً عبر الالتزام بمبدأ المعاملة على قدم المساواة؛ بحيث يتم التعامل مع الحالات المتشابهة على نحو متماثل. أما تحصين العدل من حيث المضمون، فيتحقق عبر ضمان اقتران العدل بالرحمة الإنسانية، وضمان انطلاق الحكم العادل من الوعي بالفروق بين البشر.
ولا يمكن التطرُّق إلى أهم المقولات الفلسفية المعاصرة حول العدل دون التوقف عند إسهامات الفيلسوف الأمريكي جون رولز الذي طرح نظرية خاصة بالعدل في توزيع الخيرات الإنسانية الأساسية على أفراد المجتمع، وهي النظرية المعروفة باسم "نظرية العدل التوزيعي". تقوم نظرية العدل التوزيعي على مبدَأي الحرية والاختلاف. إذ يُقرِّر المبدأ الأول أن لكل شخص حقًّا في الحرية مساويا لحقوق الآخرين، في حين يقرر المبدأ الثاني أن الاختلاف في توزيع المنافع ينبغي أن يصب في مصلحة الأقل استفادة؛ باعتباره أكثر استحقاقاً لها من غيره. غير أنَّ الفيلسوف النمساوي فريدريك هايك يعترض على مبدأ الاستحقاق الذي يشكل لب نظرية العدل التوزيعي عند جون رولز؛ إذ يرى أنه يشكل خطراً على الحرية الفردية التي تعد اللبنة الأساس في نظام السوق الحر، ويطرح عوضاً عنه فكرة الجدارة، أو "الاستحقاق الموضوعي"، مُحيلاً أمر العدل إلى السوق، بحيث يتحصل البعض على عوائد أكبر مما يتحصل عليه الآخرون، وذلك بحسب معايير السوق.
ويخصِّص الكاتبُ جزءَ المقال الثاني للتحدُّث عن الفضائل والمبادئ الأخلاقية التي تشكل المؤتلف الإنساني. ويرى أنَّ ثمة اتفاقاً ضمنيًّا بين البشر على الالتزام بمبادئ أخلاقية معينة تكون بمثابة معايير للتفاهم الإنساني، وبفضلها يتحقق الصالح العام. ومن شأن هذا الاتفاق غير المعلن أن يتيح للأفراد الوعيَ بالكرامة الإنسانية، واحترام حقوقهم المتمثلة في الحريات المدنية المختلفة؛ كحرية الرأي، وحرية العقيدة، وحرية التجمع، وحرية الامتلاك... وغيرها. ويعوّل المؤتلف الإنساني في هذا الشأن على أهمية الذكاء العملي وفق منظور أرسطو؛ إذ يستطيع الشخص المتسم بالذكاء العملي تحقيق "أفضل ما يكون صالحاً من خيرٍ قابل للتحقق بالفعل".
وفي استعراضٍ سريعٍ لأهم المقولات الفلسفية حول الأخلاق، يشير الكاتب إلى اختلاف مذهب أرسطو عن مذهب أفلاطون الذي تأخذ المبادئ الأخلاقية عنده طابعاً عقلانيًّا محضًا، أي غير واقعي، نتيجة قيام نموذجه الأخلاقي برمته على صورة المثال أو النموذج. من جهته، يبدو الفكر الأخلاقي في العصر الوسيط مصطبغاً بصبغة دينية؛ إذ اعتقد توما الأكويني أنَّ الحياة الأخلاقية تمثل صورة الإنسان الخيرة كما خلقه الله، وأنها الوسيلة التي تتحقق بها الغاية القصوى المتمثلة في بلوغ الكمال. وفي طرحٍ مماثل، يعرّف الفارابي الأخلاق بأنها: "علمٌ يفحص عن الغرض الذي لأجله كُوّن الإنسان، وهو الكمال، ثم يفحص عن جميع الأشياء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال". ويتشابه الفيلسوفان أيضاً من حيث ربطهما الصريح بين الأخلاق والسياسة؛ إذ عد كلاهما قيام الدولة هدفاً أخلاقيًّا. ويذهب كاتب المقال في نفس الاتجاه، مؤكداً أنه "لا يمكن تصور المؤتلف الإنساني من دون بعدٍ أخلاقي/سياسي يحقق سعادة الفرد كما الجماعة".
