ناصر الحارثي
يُمكن فهم دوافع الكاتب فيصل الحفيان في مقاله "أخلاقيات التحقيق" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- عندما تجد النص في صورته الأولى "المخطوطة" أفضل بكثير من صورته الجديدة "المحققة"، واختلاط أفكار المحقق مع أفكار صاحب النص الأصلي؛ لذلك يأتي مقاله مؤكدا على أهمية النظرية العامة لعلم التحقيق، مشيرا في الآن ذاته إلى أن المشكلة تتجاوز التكوين العلمي والنظري والتطبيقي للمحقق إلى ظواهر لا أخلاقية. إن المخطوطة برأي الكاتب نص ماضوي كتب في إطار ظروف وقضايا تاريخية؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه، وأمام هذا النص التاريخي الذي نقرأه في حاضر مختلف يرتدي المحقق زي القاضي الذي لا يحابي أحدا ولا ينتصر لفكرة بل عليه أن يظهر النص كخبر في الماضي يحقق فيه ويوثقه؛ لذلك يسمى علم التحقيق، لا كحقيقة أو معلومة يقوم بنقدها أو مناصرتها، وتبدأ المهمة من خلال عملية التوثيق والتأكيد على قدم النص، كما أن استحضار النص التاريخي كحقيقة تاريخية لا يمكن أن يتحقق مع بتر النص من سياقه التاريخي.
إنَّ محور حديث الكاتب في أخلاقيات التحقيق هو استعراض قيم علم التحقيق وأهميتها، وقد أوضح بأن هذا الموضوع رغم أهميته لم يكن حديث المحققين إلا في شذرات متباينة بين سطور كتبهم، وهذا الأمر لا يقلل من الجهود الكبيرة التي بذلها عدد من المحققين العرب في إطار سعيهم لتقديم إضافة ملموسة في خدمة التراث العربي وعلم التحقيق، وقد اطلع الكاتب على كتابات المستشرق الألماني برجشتراس في كتابه "نقد النصوص ونشر الكتب"، وكتاب "قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها" للفرنسيين بلاشير وسوفاجيه ووجد أن الاهتمام بقيم أخلاقيات التحقيق غائب عندهما، وأما على الصعيد العربي فإن أبرز من اهتم بأخلاقيات التحقيق عبدالسلام هارون من خلال تأكيده على الأمانة العلمية في التحقيق، وعدم التدخل والعبث في النصوص من خلال التصحيف والتحريف، كما ركز عبدالله عسيلان في كتابه "تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل" على قيم مثل أهمية اتصاف المحقق بالأمانة وعدم التعجل في وضع الأحكام والاستنتاجات لمقاصد النص الأصلي، ويشير الكاتب إلى أن وجود أخلاقيات وآداب عامة في أي علم هو أمر سائد في التراث العربي.
إنَّ تفاعل النص التراثي مع العالم العربي وارتباط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي، يجعل من النص التاريخي في المخطوطة برأي الكاتب مادة تجارية لدى كل من المحقق والناشر. هذا الانتهاك الخطير وغياب الأمانة العلمية يجعل من النصوص وسيلة لمناصرة أفكار وأيدولوجيات معينة من خلال استحضار النص وبتره عن سياقه، وفي ظل عدم وجود دستور لقيم التحقيق والمخطوطات وسهولة التزوير والتعديل في النصوص وسرقة جهود المحققين انتشر في منصات التواصل الاجتماعي الكثير من النصوص الغير موثقة أو المنسوبة لأشخاص آخرين. وهنا يظهر ضعف دور المؤسسات التراثية الرسمية في ضبط إيقاع العمل التحقيقي، فنجد وجود ظاهرة مثل نص أدبي كان ينسب لكاتب معين، والآن أصبح ينسب لعدة كتاب وأصبح هذا النص مجهول المصدر، كما أن انتشار ظاهرة السرقات الأدبية وحتى انتشار الرسائل العلمية المزورة على الرغم من وجود كتابها الحقيقيين أحياء يجعل من مهمة التزوير والتهاون أمام نصوص قديمة عملية سهلة. ومن المآسي التي نجدها في واقعنا هو المحاكمة الدائمة والمستمرة للنص التاريخي كما حدث من استجداء لنصوص تاريخية قديمة مبتورة عند قيام نشاط إرهابي متطرف كما هي الحال في "داعش"، ومحاكمة التراث من خلال المطالبة بحرقه كاملا، أو الدفاع عنه بشكل مستميت وكأنه نص ينطق باسم الحاضر، إن من أسباب هذا الخلل الأخلاقي في التعامل مع النصوص التراثية وانتهاك قيم التحقيق هو حجم التراث العربي غير المحقق، فهذه النصوص بين سندان العزوف الكبير عن التحقيق ومطرقة التشويه المباشر للمخطوطة، وكذلك الصراعات الفكرية في عالمنا العربي والرغبة الدائمة في استحضار النص التاريخي ومحاكمته إيجابا وسلبا وكأنه فعل مستمر وليس خبرا، كما ساهم في ذلك أيضا تردي الوضع في عالمنا العربي وضعف المؤسسات الثقافية سواء من خلال ضعف الدعم المادي أو ضعف الأفراد العاملين فيها وغياب الصبر والأناة، وكذلك عدم فهم بعض المحققين للإطار الزمني والحالة الثقافية التي كتب فيها النص.
إنَّ الحديث عن أخلاقيات التحقيق وأهميته وأهم نقاط الضعف التي تعاني منها النصوص المحققة دفع الكاتب إلى تبني وإيجاد حلول تساهم في حل هذه المشكلة الأخلاقية كما أسماها، وذلك من خلال بناء منظومة أخلاقية للعمل في النص التراثي تحت إشراف أساتذة أكاديميين متخصصين، ودمج علم التحقيق مع أخلاقيات التحقيق فالتحقيق صنعة وقيم، وضرورة وجود دستور أخلاقي من خلال تبني ميثاق شرف أخلاقي في التعامل مع النصوص التراثية، فالالتزام بأخلاقيات التحقيق تؤدي إلى مكاسب عملية وفكرية تتمثل في وجود التوثيق العلمي الصحيح، والمحافظة على سلامة النص التاريخي من التعدي عليه بالحذف أو الزيادة، وكذلك يساهم في التعامل مع النص التاريخي على أنه حدث ماضوي وليس حقيقة عملية تحاكم وتجتزأ من سياقاتها لتحقيق رغبات فكرية وسياسية آنية.
إنَّ غيرة الكاتب على قيم علم التحقيق مبررة سواء في سياق الأمانة العلمية، وكذلك في سياقها الفكري. إن حاضرنا يختلف عن ماضينا ولكن للغة العربية سحر يجعل للنصوص مهما قدمت معاني ودلالات نستشعر بها في سياقنا الحاضر، ولكن هذا السحر الجميل سلاح ذو حدين فقد يكون معول بناء لدراسة الماضي؛ فالتاريخ لا يكرر نفسه، أو معول هدم في التساهل في نشر معلومات من مخطوطات غير دقيقة. إن عدم تحري الدقة في المخطوطات يجعل من البناء الأكاديمي والبحثي على المخطوطة المحققة بناء ضعيفا والاستدلال بها هشا ومزورا. حاول الكاتب تشخيص واقع التحقيق في عالمنا العربي ولكنه لم يتمكن من سرد أنواع الإشكاليات الموجودة في المخطوطات ليتفاداها المحققون أو المهتمون بالتحقيق، كذلك لم يتبن حلولا منهجية فاعلة يمكن البناء عليها؛ فلقد اقتصر المقال في التركيز على أهمية أخلاقيات وقيم التحقيق، وكذلك في الإشارة إلى أبرز ما كتبه المحققون العرب في هذا المجال. إن مشكلة المحققين برأيي تتعدى مسألة المنهجية والقيم إلى إشكالية فكرية حقيقة من خلال رغبة بعض المحققين في إظهار صور معينة للكاتب من خلال التحقيق لكتبه، خاصة وأن بعض المخطوطات ارتبطت بأغراض مادية أو ندوات احتفاء بالنتاج العلمي لصاحب المخطوطات، لذلك نحن بحاجة ماسة إلى وجود قاعدة بيانات رقمية واعتماد مصادر ومعاجم تساعد المحقق في فهم المعاني والمصطلحات في سياقها الزمني، ومراجعة تحقيق المحقق لتجنب إشكاليات كالتنقيط والحذف والزيادة تُسهم في زيادة حس الأمانة والدقة لدى المحقق.
