ناصر الحارثي
يرى المفكر اللبناني رضوان السيد في حديثه عن "شواهد التغيير في القرآن الكريم" أن مفهوم التغيير في القرآن يأتي على أربعة سياقات وهي التغيير الكوني والتغيير الأممي أو الحضاري والتغيير داخل أمة أو قرية معينة أضف إلى ذلك التغيير المجتمعي والفردي، مؤكدا في الوقت ذاته أهمية تأمل المجتمع الإسلامي المعاصر لمفهوم التغيير في القرآن واستيعاب دلالاته للخروج بحل قيمي يُعالج الإشكاليات المرتبطة بالأنشطة السياسية والحقوقية لواقعنا المعاصر.
إن مفهوم التغيير من المفاهيم الراسخة في ثقافتنا الإسلامية فلطالما ارتبط الدين الإسلامي والرسالة القرآنية المجيدة بالتغيير، وعند تأملنا لدلالات ومعاني وفكرة التغيير في القرآن نجدها تأتي على عدة أنساق، فالآية القرآنية "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ"، وكذلك الآيات الأولى من سورة التكوير والانفطار تتحدث عن تغيير كوني وهو تغيير يتجاوز قدرة البشر ويرتبط بالقدرة الإلهية، ومن ثم يأتي المفهوم الحضاري للتغيير "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" والمتأمل لهذه الآية يجد أنها تتضمن معاني عميقة في التطور والتغير الحضاري فلا يوجد أمة هي خير من أمة، ولا حضارة هي خير من سابقتها، فمن تولى وأدبر وتخلى عن القيم تجاوزته السنن الكونية بحضارة مختلفة لا تكون على شاكلته، فلا دليل على علوية وجلالة قدر السلف على الخلف، وأما النسق الثالث للتغيير في القرآن الكريم وهو مقارب للنسق الثاني ولكنه يتحدث عن التغيير في داخل الأمة أو الوطن الواحد، وذلك في قوله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"، في حين تحدث النسق الرابع للتغيير عن الجماعات والأفراد وهو الأكثر تكرارا في الخطابات الدينية المعاصرة في حديثها عن التغيير وهي الآية الحادية عشر من سورة الرعد "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، وقوله تعالى:"ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ " وهنا يرى الكاتب بأن الأنساق الأربعة للتغيير في القرآن الكريم تشير إلى أن التغيير قد يكون للاتجاه الأفضل أو الأسوأ، ولقد جاءت آيات التغيير مسبوقة بعلامة التوكيد "أن" و "إن" وهو ما يشير إلى أن التغيير قاعدة أو سنة من سنن الحياة كما أشار إليها المفكر الإسلامي محمد عبده.
إن من أهم إشكاليات التغيير في الإسلام المعاصر هو غياب أو ضبابية الأسس التي يجب أن ينطلق منها مشروع التغيير أو الإصلاح، لذلك نجد تضاربا وتضادا في الكثير من المشاريع الإصلاحية، مع أنه في حالة عودتنا للقرآن وتأملنا له نجد أن التغيير مرتبط بقيم كلية أساسية علوية تتكرر بصيغ ودرجات متابينة، وهي المساواة والكرامة والحرية والعدالة والتعارف والخير العام، ولقد تباينت المدارس الإسلامية على مدى قرون طويلة حول ما هي القيم العليا الحاكمة حيث ذهب المعتزلة إلى أن العدل هو القيمة الرئيسية، ولذلك سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد في حين اعتبر الأشاعرة قيمة الرحمة هي القيمة الأولى، بينما ركز بعد ذلك الصوفية على قيمة العلاقة مع الله تعالى والحب والذكر، ومن ثم تسيد الفقهاء المدارس الإسلامية ليركزوا على العبادات؛ ولأن الفقهاء ذهبوا بعيدا عن مسار القيم فإنَّ الكاتب يرى بأن أبا الحسن المورودي أخرجهم من مأزق القيم بقوله في كتاب "الدين والدنيا" إن الأصول القيمية ستة وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح، لذلك نجد أن الأمة الإسلامية مرت على مفاهيم وفلسفات متعددة حول القيم وارتباطها بمفهوم التغيير، وهذا الإرث الثقافي بكافة إشكالاته كان له ترسبات كبيرة على واقع الحضارة الإسلامية المعاصرة، حيث إن الأمة الإسلامية وبالتحديد الأمة العربية وجدت نفسها مطالبة بالتغيير ليس على المنظور القيمي فقط بل على كافة أشكال الحياة وعليها أيضاً أن تتجاوز التغيير إلى التقدم الحضاري، ولقد تباينت وجهات النظر حول آلية وطرق التغيير فهل نحتاج إلى أسلمة المشروع الغربي كما يرى رفاعة الطهطاوي مستدلا بذلك على أن أهم إشكاليات المسلمين هي إشكاليات تنظيمية وليس قيمية دينية، في حين رأى خير الدين التونسي أهمية تبيئة الفكر وتغيير الكثير من المفاهيم التي رسخها الفقهاء ليكون المجتمع مؤهلا للتقدم، وعند تأملنا للواقع السياسي والاجتماعي نجد أنه مع متطلبات التغيير ظهرت العديد من الحركات والأحزاب الوطنية والدينية، وعند ظهور هذه الحركات كان هناك حراك ولو بسيط وهو ما يسمى بالإسلام الاجتهادي، حدثت الكثير من الصراعات والصدامات الملحمية والمأساوية في الآن ذاته بين النخب السياسية الوطنية وبين التيارات الدينية ورجالاتها، ويطرح الكاتب هنا فكرتين وهي هل سبب هذا الصراع هو طبيعة الإسلام والأديان السماوية؟ ولذلك حدثت هذه المشكلة في الشرق الأوسط ولم تحدث عند اليابان وشرق آسيا، أم اختلاف درجات الوعي بين النخب؟ ولكنه في الآن ذاته يجد الكاتب أن السبب في حقيقته راجع لأمر مختلف وهو الربط السطحي بين الإسلام ومشروع التقدم ويتمثل ذلك في هل الإسلام يقبل التقدم أو يرفضه؟ وكذلك التأثير الكبير للاستعمار الغربي وغياب تأثير المؤسسات الدينية التقليدية، مما خلق فراغا سمح بظهور الكثير من الشباب المندفع باسم التغيير والإصلاح الديني والذي كان غير مقبول لدى المؤسسات التقليدية أو المجتمع وبدرجة أكبر من النخب الوطنية.
استعراض الكاتب للتغيير في القرآن والتاريخ الإسلامي أضاف الكثير من النقاط على الحروف وهو أهمية ربط التغيير بالقيم القرآنية لا بالقيم التاريخية، ولكنه وقع في تنبؤات ونتائج تخالف واقع المسلمين المعاصر فلقد توقع الكاتب الموت والفناء لثنائية الاستبداد والتمرد الإسلامي، متوقعاً تراجع التيارات الإسلامية وتقهقرها للوراء بعد الفشل الذي منيت به في سبعينيات القرن الماضي، بطبيعة الحال تراجع رضوان السيد عن هذا الاستقراء المستقبلي بصورة أو بأخرى فأصبح بعد أحداث الربيع العربي يتحدث عن الثوران الديني، كما صرح برواج أنشطة وحركات السلفية عند المسلمين، وأعتقد أن سبب عدم توفيق الكاتب في تنبؤاته عائد إلى تأمل وجهة نظر مخالفي تلك الحركات التغييرية دون دراسة واقعية للتأثير الكبير الذي تتركه الحركات الإصلاحية أو الدينية في الفكر الإسلامي المعاصر.
