أصول التشريع عند الجاحظ

ناصر الحارثي

يَتحدَّثُ الكاتبُ والباحثُ حمادي ذويب في دراسته بعنوان "الجاحظ وأصول الفقه" -والمنشورة بمجلة "التفاهم"- عن قضيةٍ أساسيةٍ وجديرةٍ بالاهتمام، وآلية التعامل مع الفقه من وجهة نظر مُثقَّفي وعلماء العصر العباسي، وبالتحديد في القرن الثالث الهجري، وإنْ كُنَّا نسمعُ بانتماء الجاحظ للمدرسة الفكرية الاعتزالية وتأييده مواقف المعتزلة، إلا أنَّه عند استقرائنا للنصوص نجد أنَّ أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني لديه منهجٌ مستقلٌ لعددٍ من القضايا، مع تأصيل فقهي ومعرفي للمبدأ الذي ينطلق منه. وفي هذا المقال، سنستعرَّض بعضَ الآراء ووجهات النظر التي تبنَّاها الجاحظ؛ سواء في مجال علوم الفقه، أو في مجال النص الديني بشقيه: القرآن، والحديث.

ما يُميِّز الجاحظ عن بقيَّة علماء عصره هو اتساع مَدَاركه، وغزارة تجاربه، وتعدُّد معارفه، حتى أصبح موسوعة زمانه، ولبيبَ عصره، وأديبَ العلماء كما أَسْمَاه ياقوت الحموي. ولقد تتلمذ الجاحظ على يد مجموعةٍ من العلماء من مُختلف المدارس الفكرية؛ سواء في الفقه والفكر الاعتزالي، أو في علوم الحديث، وهو ما جعله موسوعةً لا ينغمسُ في اتجاهٍ واحدٍ، ولقد استثمر الجاحظ مدينة البصرة -التي ولد فيها- أبلغ استثمار، فأخذ ينهل العلوم عن طريق التتلمذ تارة، والكتب تارة أخرى، وانتقد الركون إلى الكتب دون مُجالسة العلماء؛ لأنَّها تحرمهم من تجارب معرفية لا تتوافر بين بطون الكتب؛ لذلك نجد الجاحظ يميل في كثيرٍ من المواقف والقضايا السياسية والفكرية في عصره إلى عدم التطرف في التعامل معها، بل الشك فيها، ثم نقدها، ثم التجريب والتعامل معها، فهو يتَّبع منهجا علميا دقيقا مبنيا على التفكيك والتحليل، وهذا ما يُميِّز الجاحظ ويجعله فريدَ زمانه. وإذا تأملنا المنهجَ الفقهيَّ للجاحظ في الكتب التي ناقش فيها آراءه الفقهية بشكل مباشر -مثل كتاب "أصول الفتيا والأحكام"، وكذلك "نظم القرآن"، و"خلق القرآن"- أو بشكل غير مباشر في كتبه الكثيرة التي ضاع عدد كبير منها وجرى الحديث عنها في كتب عدد من المعتزلة، وكذلك فقهاء المدارس الفكرية الأخرى.

ولقد تحدَّث الجاحظ في كتبه عن جُملة من المصطلحات الفقهية: كالعام والخاص، والبيان، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وكذلك مسألة الإجماع والقياس، والعلة، والاجتهاد والعقل، ولقد اتفق مع المعتزلة في عددٍ من أصول الفقه، واختلف معهم في عدد قليل من الأصول أو في تفاصيلها، ولقد اعتبر الجاحظ القرآن أصلا للتشريع؛ وذلك في نقاشه لقضية خلق القرآن، واتفق مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق لكنه وقع في منزلة ما بين منزلتيْن وهي: هل القرآن معجز في كتابه لأن العرب عجزوا عن معارضته؟ أو لمنع االله إياهم عن الإتيان بمثله مع قدرتهم عليه وهو ما يُسمَّى بـ"الصرفة"؟! وهو رأي تبنته المعتزلة، كما تطرق الجاحظ لقضية مهمة وهي وجود تيارات فكرية تقوم على نقد القرآن والتساؤل عن المتشابه والعام والخاص فيه، وهو ما يُشير إلى تعدُّد وجهات النظر في الدين في فترة مبكرة من العصر العباسي، وما يؤكد وجود مساحة واسعة لتعدُّد الآراء ومناقشتها في أفق معرفي يسع الجميع، ولقد أسهم تتلمُذ الجاحظ على يد علماء الحديث في أن يكون نقده لمنهجهم موضوعيًّا دون تجاهل أهمية علم السُّنة، والتي جعلها في مرتبة الصدارة بين العلوم من بعد القرآن، ولكن مع تقييد مفهوم السُّنة وإحكامه، مع التركيز على أهمية إعلاء القرآن فوق السُّنة، وأن يكون الأخذ بالحلال والحرام في الفقه من بعد القرآن من السُّنة المجمَع عليها، ولقد أشار الجاحظ إلى الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي والمعتزلة في جانب من كتاب "الحيوان"؛ حيث إنَّ الصراع لم يزل لم يطفُ على الساحة.

ومن نماذج الصراع: مسألة الكلب والسنور؛ حيث يقول النظام شيخ المعتزلة في الحديث عن المفاضلة بينهما: ((قدمتم السنور على الكلب، ورويتم أنَّ النبي أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير وتقريبها وتربيتها؛ لقوله عند مسألته عنها "إنهن الطوافات عليكم")) انتهى قوله. ولقد كان الرد الاعتزالي بأن القرآن مدح الكلاب، ولقد اعتبر الجاحظ أنها آية مُحكمة والأصول مُقدَّمة؛ لذلك تبنى الرأي الذي يقول بأفضلية الكلاب، وعلى الرغم من أنَّ هذه القضية تعكس وجود نوع من الترف الفكري، إلا أنها في الآن ذاته تعكس تأصيلاً حضاريًّا تاريخيًّا في التعامل مع الحيوانات، خاصة وأنَّ كثيرا من المجتمعات العربية تستأنس القطط أكثر من الكلاب، والأهم منه بروز خلاف ما بين أهل الحديث وأهل الرأي، والذي تزايد في العقود التي تلت فترة حياة الجاخظ.

ولقد ركَّز الجاحظ على الخبر في الرواية وأهمية التحقُّق من صحة متن الحديث، وعدم التركيز على السند دون المتن، ولقد أَوْرَد عِللا وأسبابا كثيرة في هذا السياق؛ منها أنَّ الحديث دون النظر لأسباب نزوله يكون ناقصَ المعنى غير دالٍّ على الحكم لأنه افتقد العِلَّة من القول، وكذلك فإن وجود عدد من الرواة للحديث الواحد لا يدلُّ على صحته، فقد يكون الخبر منقولا من فرد واحد هو أكثر صحة من المجموعة، خاصة وإنْ كان نقلهم مُرتبطا برأي معارض لرأيهم، وكذلك ضروروة إحكام العقل والتحقق من متن الحديث حتى لا يكُون الحديث حُجَّة دون توافق مع العقل والقرآن، ولم يُهْمِل الجاحظ في السياق ذاته أهمية الإجماع في الخبر. والجاحظ لا يعتبر الحديثُ حُجَّة على تواتر عدالة المخبرين كما يفعل أهل الحديث، ولا أن يكون عدد المخبرين كثيرا بل شرطه الأساسي هو استحالة اتفاق الرواة واستحالة تعمدهم وضعه. وهنا، ينتهجُ الجاحظ نهجًا عقليًّا تاريخيًّا في التحقق من صحة الحديث.

وأمَّا منهج الإجماع، فهو منهج ديني معرفي اعتمدَه الجاحظ في قضايا كثيرة، وهو لا يرى الإجماع مُقتصرا على أهل السنة، بل يشمل كلَّ المسلمين وأهل الصلاة، وفي بعض القضايا أهل الدنيا، وهو يبني على الإجماع دينيًّا دليلاً شرعيًّا، وعلى الإجماع البشري حقيقة ويقينا، دون الاعتراض أو التقليل من مقام القلة. وفي هذا السياق، يُسجِّل الجاحظ اعتراضا على الرواية "تفترق أمتي"، مبينا أنَّ الحقيقة لا يمكن أن تحتكرها فئة معينة، كما اختلف الجاحظ مع رواية "اختلاف أمتي رحمة" قائلا وبطريقة بليغة ودقيقة: "لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا"، وكذلك اعترضَ الجاحظ على قصة الحجر الأسود، وأنه كان أبيض قبل أن يسوِّده المشركون؛ حيث قال: "كان يجب أن يبيضه المسلمون حتى أسلموا"، كما نقد رواية حديث "جناحي الذبابة" واعتبرها رواية موضوعة تحمل العداوة والمكيدة.

نجدُ أنَّ الجاحظ اعتمدَ منهجاً عقليًّا شكِّيا، لكنه أقرب للواقع، فهو لم يكتفِ بالتنظير، بل حاول أن يطبق منهجه المعتمد على الشك في النصِّ، ثم نقده وتحليله، وفي النهاية التجريب على أرض الواقع. ولقد أنزل كل علم من العلوم منزلته، فهو أشبه بالباحث المعرفي الذي يضع تأصيلا، ومن ثمَّ يطبقه في كل علم حسب طبيعته، ولم يكن ليتحقق هذا الأمر عند الجاحظ لولا أنه كان شكِّيا في منهجه، متعددا في العلوم والمعارف.

أخبار ذات صلة