ناصر الكندي
في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم بعنوان "الرؤية القرآنية لحقوق الإنسان: من الخصوصية إلى الكونية"، يتناول الكاتب محمد علي الجماني مفهوم حقوق الإنسان بين الخصوص والعموم، أي إمكانية انتقال هذه الحقوق من الحيز الخاص للدين إلى الحيز العام للكون؛ ذلك أن الخصوصية الدينية مثلا في الإسلام تم استغلالها من بعضهم لتبرير التمييز ضد المرأة والتملص من الالتزامات الدولية كالمواثيق والإعلانات بحجة الخصوصية الثقافية والدينية.
ويثير الكاتب عدة تساؤلات في صدر المقال مثل: هل الخصوصية في العالم العربي والإسلامي والعالم ككل منغلقة على ذاتها؟ أو هي مقدمة للانفتاح الكوني؟ كيف أسهمت النصوص المؤسسة للأديان التوحيدية الإبراهيمية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان؟ أين تتجلى جدلية الخصوصية والكونية من منظور الرؤية القرآنية التي هي امتداد للأديان التوحيدية الإبراهيمية؟ وكيف يمكن للخصوصية أن تنفتح على الكونية من منظور الرؤية القرآنية؟ ومن خلال هذه التساؤلات يحاول الكاتب استقراء النسق القرآني الارتقائي من الفرد إلى الجماعة ومن ثم الخلافة الكونية. ولأجل توضيح ذلك يقترح الكاتب ثلاثة محاور للتحليل: الأول: خصوصية حقوق الإنسان في الأديان التوحيدية الإبراهيمية. الثاني: مفهوم الإنسان في الرؤية القرآنية. الثالث: الرؤية القرآنية لكونية حقوق الإنسان.
في المحور الأول، يشير الكاتب إلى أن الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام) كان لها دور كبير في نشر وتطوير مبادئ حقوق الإنسان ذلك أنها أسهمت في تأسيس الوعي بحرية الإنسان وحقه في العيش الكريم، وجعلته مدار الكون ومناط التكريم. إلا أنه ينبغي أيضًا التمييز بين خصوصيات هذه الأديان في مفهوم حقوق الإنسان. ففي خصوصية حقوق الإنسان بالديانة اليهودية تعد رسالة موسى عليه السلام بمثابة ملحمة لتحرير الفرد من طغيان فرعون، ويتجلى ذلك في وصاياه التي وردت في سفر التثنية كحق الوالدين والفقراء وحفظ حقوق الإنسان المالية ومنع الغش والرشوة وغيرها من الحقوق. ولكن تكمن إشكالية هذه الوصايا في تحديدها فقط لبني إسرائيل وعدم تجاوزها لهم.
أما في الديانة المسيحية، فقد انتقلت من الخصوصية المنغلقة إلى الخصوصية المنفتحة مثل الحق في الحياة وحرية الاعتقاد وحق الزوج على زوجته والعكس، وحق التعليم والمساواة والعمل والإرث والتسامح وغيرها، وتدعو الأناجيل الأربعة إلى المحبة والتسامح مع الآخر. إذن المسيحية هي دعوة دينية خالصة، إلا أنها لم تهتم بنظام الحكم الذي تفضله وإنما اكتفت بإعلان حرية العقيدة وتحقيق مثل أعلى للإنسانية معتمدة على أساس المحبة. وهي تختلف عن اليهودية بكونها لم تهتم بشريعة تنظم مبادئها ولا بقومية تكون مركزها.
ويعد الإسلام آخر الديانات التوحيدية، وقد تعايش مع باقي الديانات سواء كانت توحيدية أو وثنية، ومن أهم خصائص حقوق الإنسان في الإسلام وجود الشريعة الإسلامية؛ إذ إن حقوق الإنسان جزء منها، وتتميز أحكامها بالصفة الدينية وقوة الإلزام وهي حقوق إلهية مقيدة بالمصلحة العامة. ومن أبرز نتائج إضفاء الصفة الدينية على الأحكام العامة لحقوق الإنسان هي الكمال والخلو من النقص كالظلم والهوى والمُحاباة والنسيان. وتتميز هذه الشريعة بأنها إلهية وعالمية وليست مرتبطة بقومية معينة. وهنا يثير الكاتب تساؤلا: ما هو موقع الإنسان في الرؤية القرآنية؟ وكيف يمكن للخصوصية أن تنفتح على الكونية من منظور الرؤية القرآنية؟
يجيب الكاتب عن ذلك في المحور الثاني "مفهوم الإنسان في الرؤية القرآنية" ذلك أن مفهوم الإنسان في القرآن قائم على حقيقتين داخليتين في قوامه وتركيبه الإنساني: الأولى أنه مخلوق أصله الأول من تراب وسلالته من ماء مهين، والثانية تكريمه على سائر المخلوقات الأخرى. وعليه، فقد وضع القرآن الإنسان في مكانه الطبيعي باعتباره المخلوق المسؤول وحاملاً للأمانة، وخطاب القرآن للإنسان شامل من خلقه إلى مماته، يدله على سعادته في الدنيا والآخرة ويحدثه عن طبيعته وصفاته السلبية ونقصه. وهو هنا ينقل الإنسان من عالمه الفردي ثم إلى الأسري ليصل به في النهاية إلى تسخير الأرض له.
ويناقش الكاتب محمد الجماني في المحور الثالث المعنون بـ "الرؤية القرآنية لكونية حقوق الإنسان" عن بعض معالم هذه الحقوق مثل: 1- حقوق الإنسان في المساواة والتي تكون بالمساواة في الحقوق القضائية والحقوق المدنية والسياسية. 2- حق الإنسان في الحياة إذ عدّها القرآن حقا مقدسا للإنسان بل جعل القتل موازيا للشرك وذلك دون تمييز بين المسلم وغيره. 3- حق الإنسان في الأمن، وذلك حفاظًا على حياته وجسد وماله وعرضه ونسبه ومسكنه وملبسه، وحق في الدفاع عن نفسه من العدوان. 4- حق الإنسان في التمتع بنظام قضائي فاعل، وذلك من خلال استخدام الشهادة الصحيحة الثابتة كدليل للإثبات في المعاملات. 5- حق الإنسان في الحرية، مثل الحرية الدينية والفكرية وحرية التنقل والحرية السياسية. 6- حق الإنسان في العدالة، ذلك أن القسط شعار الديانات السماوية كلها، والعدل من أسماء الله الحسنى، وجعل الإسلام العدل شاملا دون تمييز لأي نوع أو طائفة. 7- حقوق المرأة، فقد أعلنت الكثير من آيات القرآن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من حيث القيمة المشتركة والحقوق والواجبات، وفي الزواج والميراث. 8- حق الإنسان في التعليم، وهو العامل الأساسي لانتقال العرب من الجاهلية إلى العلم والحضارة من أول كلمة له "اقرأ" والدعوات المتكررة للتأمل والتدبر. 9- حق الإنسان في العمل، وهو شامل للعمل الدنيوي والأخروي، فقد قرن العبادة كقيمة مشابهة للعمل الدنيوي.
ويختتم الكاتب دراسته بمقاربة بين كونية حقوق الإنسان في الرؤية القرآنية وبين الرؤية الوضعية العالمية وذلك من أجل معرفة التأصيل للمشترك الإنساني والثقافي، حيث إن القرآن نسخ الشرائع السابقة له التي كانت منغلقة في اليهودية إلى الانفتاح في المسيحية وانتهاء بكونية حقوق الإنسان في الرؤية القرآنية بوصفها خاتمة الأديان التوحيدية والإبراهيمية.
