فيصل الحضرمي
للباحث الأمريكي بيتر ماندافيل مجموعة من الكتب والدراسات التي تتناول الإسلام السياسي، وشؤون الشرق الأوسط، والمجتمعات المسلمة في أوروبا وأمريكا الشمالية. ويستمد ماندافيل خبرته في هذا المجال من خلال عمله كأستاذ للشؤون الدولية بجامعة جورج ميسون الأمريكية، كما من خلال تماسه المباشر مع الموضوعات ذات الصلة بالإسلام السياسي والمجتمعات المسلمة إبان عمله كمستشار أعلى بمكتب الأديان والشؤون العالمية بوزارة الخارجية الأمريكية. كما سبق له أيضاً العمل كعضو في لجنة رسم السياسات بذات الوزارة، والتي أسهمت في بلورة الاستجابة الأمريكية للربيع العربي بين عامي 2011 و2012.
وفي أحد فصول كتابه "سياسات المسلمين العابرة للقوميات" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- يبحث ماندافيل الدور الذي لعبته تقنية المعلومات ووسائل الاتصال في تحويل ماهية ومفاهيم الخطاب الديني الإسلامي، وفي تبديل مراكز السلطة في هذا الخطاب، والكيفية التي غيرت بها التكنولوجيا تعريف المسلمين لحدود أمتهم. وينطلق الكاتب من التأكيد على السطوة التي يمتلكها الإعلام اليوم على الطريقة التي يعبر بها الناس عن ذواتهم، و"الغير" عن أنفسهم أمام "الآخرين". وينوه في المقابل إلى أن النظرة السلبية التي كرسها الإعلام الغربي بخصوص المسلمين باعتبارهم "الآخر المغاير"، أدت إلى وفرة الكتابات حول الإسلام والمسلمين، بما فيها البحوث التي تتطرق إلى توظيف تقنية الاتصالات والمعلومات كأداة لقولبة وعي المجتمعات المسلمة. ويرى الكاتب أن هذه البحوث صبت اهتمامها على استخدام الأصوليين المسلمين لتقنية الاتصالات والمعلومات كأداة للتآمر على العالم الغربي.
أمَّا ما يفتقر إليه الباحث الغربي في هذا الجانب، من وجهة نظر ماندافيل؛ فهو الدراسات التي تُعنى ببحث الدور الذي تلعبه تكنولوجيا المعلومات في سياق علم اجتماع المعرفة في الإسلام، وكيفية تحويرها لمفاهيمه ورؤاه. وكان أول تأثير لتكنولوجيا المعلومات في هذا السياق، تقويضها لسلطة العالم الذي كان نقل مروياته وتعليمها للآخرين يتطلب الحصول على إذن، أو "إجازة"، مسبقة منه. فقد كان التعليم الديني في بدايته شفهياً يرتكز على التلقين، وكانت القدرة على القراءة والكتابة بيد قلةٍ من العلماء والنساخين والخطاطين. ولكن بدخول الطباعة إلى العالم الإسلامي مطلع القرن التاسع عشر، انكب المسلمون على طباعة الرسائل والمخطوطات التي تتصدى للتهديد الغربي للأمة الإسلامية. وأدى ذلك، شيئاً فشيئاً، إلى تحول التعليم الديني من ثقافة المشافهة إلى ثقافة الطباعة. وصار متاحاً للمسلمين التعرف إلى أمور دينهم عبر الكتب والمنشورات المطبوعة دون الحاجة إلى العودة إلى العلماء التقليديين، الأمر الذي نجم عنه تضعضع سيطرة هؤلاء العلماء على التعليم الديني.
قاد هذا التحوُّل المعرفي الكبير إلى جعل العلم الديني، الذي كان إلى وقت قريب حكراً على العلماء المتضلعين وحدهم، موضوعاً مفتوحاً للنقاش في أروقة الحياة العامة. وفيما بعد سيؤدي التطور المتسارع في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتوظيف وسائلها المختلفة، كالراديو والتلفزيون وأشرطة الكاسيت والكتيبات الرخيصة، في نشر العلم الديني، إلى ظهور ما يطلق عليه أوليفييه روا "المفكرون الإسلاميون الجدد"، الذين كونوا معرفتهم بالدين عن طريق التعلم الذاتي المستقل.
أما في أطراف العالم الإسلامي، الذي بقي شبه معزول عن المركز طيلة القرون التي سبقت قدوم الطباعة، فقد كان للتكنولوجيا دور كبير في نشر ثقافة دينية موحدة تتخذ من المركز منطلقاً لها، ما أسهم في ردم الهوة التي خلقتها العزلة بين الدين "الصحيح" ودين الأطراف المتمازج مع الموروث والمعتقدات الشعبية، وما نتج عنه ظهور جدلية "الأصالة" بين طالبي العلم الجدد، الذين راحوا يتعرضون للعلم التقليدي بالنقد الشديد، وبين العلماء التقليديين الذين زادتهم موجة الانتقادات تشبثاً بادعائهم حيازة الإسلام الصحيح. هكذا، وفي العالم الإسلامي بأسره، ستظهر، خلال بضعة عقود من الزمن، تيارات مختلفة للتوجيه الديني، يعتمد كلٌ منها تكنولوجيا المعلومات أداةً رئيسةً للسيطرة على ميول وتوجهات المسلمين.
وبحلول عصر "الرقمنة"، أي تحويل المعلومات إلى صيغ رقمية تنتظم المعلومات بداخلها على شكل ثنائيات يمكن للحواسيب قراءتها، برز إلى السطح جدلٌ آخر حول جدوى توظيف الرقمنة في عملية تنظيم العلم الديني. مع ذلك، وبدءاً من ثمانينيات القرن العشرين، جرى، بحسب الكاتب، سباقٌ محمومٌ نحو رقمنة الإسلام بين العديد من مراكز التعليم الديني الرائدة. وهي عملية رمت من خلالها هذه المراكز إلى خلق قاعدة بيانات إلكترونية تقوم على تخزين الآلاف من الأحاديث النبوية الشريفة، والموسوعات والمصنفات الإسلامية المختلفة. وهو ما يتيح حفظ هذه المؤلفات وتسهيل استرجاعها، كما ويمكّن من توليد الفتاوى إلكترونيًّا.
ويشير الكاتب إلى أن ما يسميه نيل ماكفاركوهار "الإسلام المطبوع" قد مد الحركات الإسلامية بقاعدة جماهيرية عريضة، ومنحها وسائل جديدة للتحشيد الشعبي. وقد فطن الدعاة المسلمون لهذه الميزة التي تقدمها التكنولوجيا مبكراً، فقد استخدم جمال الدين الأفغاني التلغراف لإيصال رسائله إلى حركات المقاومة في المشرق العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر. كما قام الأفغاني بطباعة المجلات والنشرات ليعبر من خلالها عن احتجاجه السياسي، وهو ما قام به أيضاً الداعية الإسلامي سعيد النورسي. وتزايد استعمال الحركات الإسلامية لوسائل الاتصال المختلفة مع تطور هذه الوسائل وتنوعها بمرور الوقت. وانضم الفاكس إلى قائمة هذه الوسائل لاحقاً، لاسيما في حادثة "شلال الفاكسات" التي وجهها المعارضون السعودييون المقيمون في لندن إلى حكومة بلدهم باسم "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية". أما اليوم، فقد اتسع نطاق وسائل الاتصالات التي يستخدمها الإسلاميون ليشمل البريد الإلكتروني، والهاتف المحمول، والإنترنت عموماً.
وختاماً.. يرى الكاتب أن مسلمي المهجر هم أكثر المسلمين توظيفاً للانترنت لأغراض سياسية، نظراً لعدم توافر شبكة الإنترنت بالقدر نفسه في البلدان المسلمة. وفي معرض حديثه عن علاقة مسلمي المهجر بتكنولوجيا المعلومات، يشير الكاتب إلى مخاوف الغرب تجاه ناشطي المهجر الذين يتهمهم بندكت أندرسون باستحداث سياسات مهددة للعالم الغربي عبر "إرسال التبرعات والأسلحة لأهل التطرف العنيف... وبناء دوائر المعلومات الحاسوبية العابرة للقارات".
