التصوف بين الإجحاف والإنصاف

أم كلثوم الفارسية

ظهر التصوف في العالم الإسلامي كنزعة فردية تدعو إلى الزهد، كانت بواكيرها الورع والتقشُّف والزُّهد في الدنيا وكثرة التعبُّد، التزمها بعض الأفراد في أنفسهم، كردّ فعل فردي في مواجهة الترف والبذخ والتعلق بالدنيا، الذي أصبح يتفشّى في المجتمع المسلم.. يقول ابن خلدون عن ظروف نشأته: "فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختصّ المقبلون على العبادة باسم الصوفيّة والمتصوّفة"؛ فكان الزُّهد والتنسّك والتعبُّد -وهي من أساسيات مفهوم التصوّف- في واقعها ثورةً نفسية فردية على سوءِ سعي الناس في الدنيا، وانصرافهم عن الآخرة، ثم نمت فانتشرت، عن طريق المريدين الملازمين للشيوخ، ثمّ تطوّرت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميّزة متنوّعة معروفة باسم الطرق الصوفيّة.

كما قال إبراهيم الوراق في مقاله "التصوف وحوار الحضارة": إنني لا أعني بالتصوف إلا ذلك المستبطن الروحاني الموجود في الإنسان، وهو يتشكل واقعا في تجربة تصطدم مع الوجود في تدافع مستمر، لتحقيق الذات وجودَها، وترسيخ حضورها، وإظهار كونها لطفا إلهيا في الزمان والمكان، وجوهرا ساميا يحلق إلى مستوى عال يجعلها نسمة من فيضه المتلألئ في الكون عدما ووجودا، ونفحة موضوعة لتحقيق المحو في المطلق بصحو حاضر في ماهية الوجود عبادة وطاعة، وفي الحضرة الإلهية فناء وسكرا، فيكون التصوف في محصلته، تلك العاطفة الدينية في بهائها ونقائها، وتلك المعاني في جمالها وكمالها، وهي تكتشف ذلك البعد المتعالي في الإنسان، وتمهِّد الطريق للمريد دليلا لأن يصل إلى إنسان كامل يتمتع بلذة المشاهدة لهذا الكون على ما هو عليه واقعا لا خيالا، ولأن يعيش لحظة التوهج في ذاته وحياته، وهو لا يرى سوى الله في حركاته وسكناته، أو هو، تلك التجربة الفردانية في الغالب، أو الجماعية المتكونة من هذا اللقاء، فيما بين الإنسان وربه، وفيما بين الإنسان وكونه، وفيما بين الإنسان وحياته بجميع علاقاتها وارتباطاتها وتفاصيلها.

ومن خلال مقالنا هذا، نحلِّل ما كتبه أرماندوا سلفاتوري في مقاله "ما وراء التصوف وطرق انتشار التصوف" -المنشور في مجلة "التفاهم"- لنقف موقف المنصف تجاه تاريخ الصوفية؛ فلا يخفى على متتبع هذا التيار الفكري الإسلامي الرائد وحجم الظلم الذي وقع على الفكر الصوفي فلقد ظُلم التصوف الإسلامي في كثير من قراءات الناس له، ربما بسبب المصطلح -كما يذكر البعض- وربما بسبب انحراف بعض المنتسبين إليه. وهذا الجزء من تراث المسلمين أصابه قسط كبير من الظلم، لم يُصب بمثله جزء آخر من تراث حضارتنا.

تعرض التصوف لانتقاد كبار علماء الأمة، وكتبت المؤلفات حول انتقاد ما جرى من بدع وعادات تجري بين يدي شيوخ ومُريدي المتصوفة، مما أربك الصورة العامة لدى المحدثين في عصرنا هذا حول الحكم على التصوف.

لا يُمكن لنا اختزال الحديث عن التصوف خلال عهود تراجع حضارة الأمة، بل شكل المتصوفة من الزهاد الأوائل طليعة صفوف المرابطين على الثغور، وتجمعوا من مجمل أقاليم المشرق الإسلامي قرب الحدود مع أعداء الأمة في شمال إفريقيا، أو في أراضي الأتراك قرب بيزنطة، وأسسوا لهم مدناً جديدة وتجمعات بشرية وفق نظام عسكري واقتصادي لم يُعرَف من قبل، وأطلق عليها المؤرخون اسم "مُدن الثغور"، ومارسوا العمل العسكري المسلح ضد الغزاة والمحتلين، وعملوا خلال تلك الفترة في حقل الدعوة إلى الله في داخل أقاليم أواسط وغرب إفريقيا وجنوب شرق أوروبا وبلاد القوقاز، وشكلوا مجتمعات نابضة بالحياة قرب الواحات والممرات الجبلية ونقاط التوتر مع الغزاة، واهتموا بزراعة الأرض وعملوا بالتجارة، وأُطلِق على حصونهم تسمية "الأربطة"، وتصدرت هذا المشهد قبائل الغُز السلاجقة في بلاد التُرك، ومارسته الحركة السنوسية في ليبيا وشمال إفريقيا خلال نهايات القرن التاسع عشر إلى جانب العمل العسكري والاقتصادي.

فالتصوف في حقيقة الأمر بمثابة الثورة الروحية في الإسلام، وتاريخ التصوف في الإسلام جزء لا يتجزأ من تاريخ الإسلام نفسه، ومظهر من مظاهره، وما أحاط به من ظروف، وما دخل فيه من شعوب، وليس شيئاً اجتلب من الخارج دون أن تكون له صلة بالدين الإسلامي وروحه وتعاليمه.

ولو أنَّ هؤلاء جميعا -النقليين والعقليين- التزموا حدود القصْد والاعتدال في أحكامهم، وأمعنوا النَّظر في ما أُثر عن الـمتصوفة من أذواق وأحوال، وما خلَّفوه من آثار وأقوال، ودرسوا هذا كلَّه في ضوء الـمنهج العلميِّ الصحيح؛ لغيروا رأيهم ولوجدوا في مواجيد الصُّوفية وإشاراتهم وعباراتهم رموزًا لتعبيرات عن حياة روحية راقية، وحالات نفسية رائعة، ومذاهب فلسفيَّة منطوية على كثير من الـمبادئ والـمعاني ليست أقلّ قيمة من الـمذاهب الفلسفية الـخالصة الـمؤسَّسة على النَّظر العقليِّ والاستدلال الـمنطقيِّ، ولتبيَّنُوا أنَّ للعاطفة منطقا، كما أنَّ للعقل منطقا كذلك.

صحيحٌ أنَّ الطُّرُقية الصُّوفية قد لحقها العديد من التَّجاوزات الـخطيرة التي هي أبعد ما تكون عن جوهر التصوف الإسلاميِّ الـمنضبط بالكتاب والسُّنة؛ لكنَّ مظاهر الانحطاط التي صاحبت سيادة الطرُق الصوفية على البنية الثقافية الإسلاميَّة لا دخل للتصوف الـحقيقيِّ بها؛ فالبدع والـخرافات والرقص مجرد عوارض مُصاحبة للجهل وليس للتصوف. كما أنَّ التصوف الـحقيقيّ هو الـمبحث الأخلاقيُّ لفلسفة الـمسلمين، وهو مستمدٌ -بطبيعة الحال- من التعاليم القرآنية، وسنَّة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وزهد الصَّحابة والتَّابعين.

مثَّل التصوف عبر التاريخ ذروة الانفتاح على الآخر وقبوله والتعايش معه والاعتراف بحقه في الاختلاف، وذلك ما جعل المستشرق مارتن لنجز يُعجب بالتصوف الإسلامي ويدخل الإسلام، ونستدل على ذلك بقوله: "لقد جذبني التصوف إلى الإسلام، جذبني بما فيه من مثل إنسانية وآداب ذوقية، وفهم صحيح واضح لله وللإنسان والعلاقة بينهما، وهي علاقة لم تحدد ولم ترسم في أي ثقافة أو عقيدة، كما حُددت ورُسمت في التصوف الإسلامي".

وختامًا نقول.. إنَّ الإنسان المعاصر يحتاج السلام النفسي والأمن الروحي أكثر من الأمن الحضاري والاجتماعي في الأزمات والحروب والمآسي الإنسانية التي يعيشها اليوم العالم المعاصر. فالإنسان في حاجة ملحة للثقافة المتصوفة في عصر طغت فيه المادة على الروح، وهجمت علينا الفتن من كل حدب وصوب. ولا يمكن أمن حضاري بغير أمن روحي ولا أمن روحي بغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين، لأن الدين في أسمى معانيه خلق، ولا دين إلا بالتكامل بين الروح والجسد وبين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بالتكامل والتوازن. فالساحة إذا خلت من التصوف ملئت بالتطرف والبؤس والإرهاب والتدمير.

أخبار ذات صلة