الحرية في عصر الطغيان المادي والآلي

محمد علي الكمزاري

وضعت مقولة الإمام الغزالي عنوانا لهذه المقالة التي تناقش ما كتبه الباحث في الفكر الإسلامي -جميل حمداوي- حول الفرد الإنساني وثنائية الحرية والجبر بين الدين والفلسفة. وأول ما سنتطرق إليه هو مفهوم الحرية وهل الفرد منا حر أو أن هناك حدودا لحريته؟ وما مدى تأثير الطغيان المادي والآلي على استلاب الحرية من الجيل المعاصر؟ وكيف كانت فلسفة الدين للحرية؟ وما هي علاقة الثقافة والأخلاق بالحرية كما يراها بعض الفلاسفة؟

فالحرية كما جاءت في المعاجم اللغوية هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة؛ حيث إنّ مفهوم الحرية يتطلب بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما. كما يمكن تعريف الحرية بالقدرة على التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودًا مادية أو قيودًا معنوية، كما أنّها تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلّص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض.

 أمّا مفهوم الحرية في الإسلام وفلسفه المفهوم دينيا فإنّه يمكننا القول أنّ الحرية بمعناها الفلسفي العام تعني: حالة الكائن الذي لا يكون خاضعا لأي عامل من عوامل الجبر، بل يكون عاملا حسب رغبته وفقا لطبيعته، ومنسجما مع بيئته. أمّا في جانبها الفقهي فتعني: الإباحة والتي يفهم منها عدم قسر الإنسان على الفعل والترك، أي منح الإنسان كامل حريته في دائرة واسعة من الأفعال، والتي يطلق عليها في الفقه الإسلامي بدائرة العفو.

وللإنسان في الإسلام الحريّة الكاملة والاختيار غير المنقوص في أن يسلك أيّ الطّرق التي يراها مناسبة في حياته، فقد هدى الله تعالى الإنسان إلى طريق الخير كما بيّن له طريق الشّر، وأكّد الإسلام على حريّة الأفراد الشّخصيّة في الحياة؛ فللإنسان أن يأكل ما يريد وأن يشرب ما يريد وأن يتنعّم بما يريد من الخيرات، وأن يبيع ويشتري ما يشاء، ما دامت تلك المُباحات لا تضرّ بالنّفس أو تؤذي النّاس.

ممّا يدل على تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، وإذا سقط شرط الحرية يسقط شرط التكليف فالدين قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). إنّ حرية الاختيار في الإسلام خلقية ممّا يترتب عليها حرية الخيار والتكليف حتى يكون الإنسان قادرا على التمييز وبذلك يكون قادرا على تحمل الأمانة التي أودعها الله عنده.

ومن الصعب تحقيق الدين مع فقدان الحرية وتمكين إرادة الإنسان، والتحرر من دائرة الذل والخضوع؛ لأنّ الدين بدون حرية سيكون مجرد مظهر مفرغ يستغله المستبدون والطغاة والفاسدون لمصالحهم الضيقة، وسيؤدي إلى تشوه المجتمع وانحلاله وهشاشته ويذهب نحو الأزمات والانشطارات والكوارث.

ومما لا شك فيه أنّ حرية الإرادة في الإسلام ممنوحة للفرد كما يريد هو دون إكراه أو إلزام ودون أن يسيء إلى غيره، فهي مرتبطة بالتكليف والتفويض والتمكين حتى يكون للحساب والجزاء معنى وحكمه.

يتضح ممّا سبق ألا حرية بدون مسؤولية؛ فالإنسان لا يكون حرا إلا إذا كان مسؤولا ولا يعني ذلك حرية الانفلات وإنما وجود قيود وضوابط تتحكم في ذلك، فمسؤولية الإنسان في الإسلام منوطة بها حرية التكليف.

ولا يخفى على العارف أنّ أخلاقيات الإنسان هي التي تحدد كونه حرا أو عبدا ولا توسط بينهما، إنّ الإنسان الحر يتقبل كل ضروب المهمات الصعبة معتبرا ذلك شرفا له، أمّا إذا طلب إليه التخلي عن جزء من حريته فإنّه غير مستعد لسماع ذلك أو القيام به.

إضافة إلى الأخلاق نجد أنّ بعض المؤلفين يرون ضرورة وجود ثقافة فاضلة كشرط مسبق للحرية، فصرّح بينجامين فرانكلين أنّ: "الأشخاص الفاضلين هم الوحيدون المؤهلون للحرية، فبتفاقم الفساد والوحشية في الدول تتزايد حاجتها للسيادة، فالحرية هي الانعكاس العملي للقدرة الفكرية والعقلية على الاختيار والإرادة، لذلك حاول المستبدون أن يوجدوا منطقا هزيلا يغرر بالجهلاء وأنصاف المتعلمين عبر تسييس الــعقيدة ونفي حرية الإرادة والاختيار عقائديا، وأن الإنسان مجبور وغير مخير وأن الخالق هو الذي يجبر الناس على الفعل خيرا كان أم شرا.

تمثل الحرية إحدى أهم المتطلبات البشرية حيث يطمح جميع الناس لأن يكونوا أحرارا في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم أو حياة مجتمعهم، لكن الحريات تُفقد عند كثير من البشر نتيجة القمع والاضطهاد والظلم المتواصل، أو حالة النشوء في العبودية، أو نتيجة فرض السلطة نظماً أو معتقدات أو أفكارا مقيدة للحريات. لذلك نلاحظ أنّ الإنســان المعاصر لم يعــد حرا أمام طغيان الاســتلاب المادي والآلي، وطغيان القوانين الملزمة في شــتى المجالات وميادين الحياة. ولكن على الرغم من ذلك، فإنّه يمكن الحديث عن حرية الإنسان بشكل من الأشكال، ما دام يمتلك العقل والوعي وروح المبادرة في تغيير الأوضاع المتردية، وتحسين الظروف التي تحاصره واقعيا في هيئة ضرورات وجبريات حتمية.

إن الحرية تبدأ من التحول الاجتماعي والتخلص من عبودية المادة والسلطة والقابلية للاستبداد والعنف والأعراف السيئة، وذلك عبر تغيير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع، إذ أنّ الفرد ينمو وهو يرى القمع والكبت والعنف يسيطر عليه منذ صغره في أسرته وفي مجتمعه ومدرسته وفي أي مكان يذهب إليه حتى تتعود روحه ونفسه على الاستعباد والاستبداد وتصبح الحرية عنده لا معنى لها؛ لأنّه لم يمارسها ولا يفهمها.

لابد أن نعلم أبناءنا الحرية منذ صغرهم ونفسح لهم المجال للحوار واستخدام عقولهم دون قيود للتعبير عن آرائهم بحيث يتعلمون معنى كرامة الإنسان وعزته وشهامته ويعرفون قيمة تحقيق الذات والشعور الواعي بالذات.

أخبار ذات صلة