عاطفة المسكرية
إنّ المتمعن في آيات القرآن الكريم والمتذوق للمعاني الواردة فيه يدرك جماله اللغوي، حيث إن فردانيته وإعجازه الذي كثيرا ما يتردد على أفواه المسلمين والمتخصصين غير المسلمين منهم لا يكمن في المعنى أو الرسالة فحسب، بل إنّ الفكرة والتجويد والإملاء يدخلان ضمن السياق كذلك. قيل أنّ القرآن تحفة أدبية ألهمت بجمال وقوة لغتها وإيقاعها أجيالا من الناس قد لا تجمعهم عقيدة القرآن.
وفي دراسة للباحثين بلال الأرفى لي من الجامعة الأمريكية في بيروت وموريس بومرانتس من جامعة نيويورك في أبوظبي بعنوان "(إني آنستُ نارا): كتاب الاقتباس من القرآن الكريم للثعالبي"، يوضحان فيها كيف أنّ للقرآن خصائص أدبية ناقشها أمثال سيد قطب في (التصوير الفني في القرآن) ومحمد أحمد خلف الله في (الفن القصصي في القرآن الكريم) وأدت إلى حدوث ظاهرة – إذا كان من الجائز تسميتها بالظاهرة – الاقتباس. وشاع استخدام آيات القرآن الكريم في الشعر والنثر كنص مقتبس بشكل غير مباشر كالإشارة إلى مصطلحات أو كلمات محددة أو معنى جاء به القرآن، بعيدًا عن الاقتباس الحرفي بسبب صعوبة التوفيق في القافية ما بين الآية القرآنية والبيت الشعري. على الرغم من ذلك، كانت هناك مجموعات تهوى استقطاب الانتباه بالسخرية ولفت الانتباه بأفعال غير مستساغة من قبل الجموع، فكانوا يقتبسون القرآن في سياقات فاحشة بذيئة ليتذكرهم الناس.
تأخذنا هذه المفارقة الغريبة لقصة الأعرابي، حيث روى الإمام ابن الجوزي حادثة وقعت أثناء الحج في زمانه؛ إذ بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحُجّاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس _ ويذكروني ولو بالسب واللعنات _ ويقولوا: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم! فالمؤسف أن شيئا مماثلا كان يحدث لبعض من كانوا يقتبسون آيات القرآن الكريم. أما فيما يتعلق بجواز الاقتباس من عدمه، البعض عارض والبعض أجاز والبعض سمح بالاقتباس الحرفي فقط مشيرين إلى أنّه في كل الأحوال ستكون الآية وسط السياق الشعري أو النثري أدنى مكانة وبلاغة من القرآن أمّا البعض الآخر فحرّم الاقتباس وكفّر فاعليه. على كل، اختلفت طرق وأنواع الاقتباسات فمنها المقبول مثل الاقتباسات الواردة في الرسائل والعهود، ونجد هذا النوع مستمر إلى يومنا هذا في العقود، والرسائل الرسمية، ووثائق الأحوال الشخصية والقانونية. ومن ثمّ الاقتباس للغزل – والذي قيل إنّه مباح – سواء في القصص أو الكتب، ويأتي النوع الأخير الذي فيه شيء من العبث وعدم احترام مكانة القرآن الكريم.
إذا قمنا برفع بعض التساؤلات حول أسباب توجه الأشخاص للاقتباس من القرآن الكريم في السابق تحديدا، نجد أنّ الإجابة تتجلى في فهمهم للمعاني الجزلة للقرآن وقدرتهم العالية على استيعابها وفهم جمالياتها ودقة معانيها لكونهم لقنوا منذ الصغر حفظ القرآن حقا بحفظ الآيات وحفظهم مجازا باستيعابهم التام له. لقد كان درس القرآن وحفظه جزءا من التحصيل التعليمي منذ الطفولة، وعليه كان الدارسون له لكثرة ترديده وتدارسه يألفون التعابير القرآنية حتى يعتادوها. بناءً على ذلك، تصبح آيات القرآن حاضرة في أذهانهم للتعبير عن شيء، أو موقف، أو معنى ما، مثل الذين تعتاد ألسنتهم في الحاضر على التحدث بغير اللغة العربية فيجدون أنفسهم يقحمون مصطلحات اللغة الأخرى دون وعي للتعبير عمّا يشعرون أنّه أدق في وصف الفكرة المراد إيصالها.
إنّ المفتي الشافعي شمس الدين يعد من الذين أجازوا الاقتباس في سياقات هادفة أو ذات معنى بشكل أدق وأثبت جواز ذلك. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنّ بعض الفئات من بين الذين استطاعوا تشرب جماليات القرآن الكريم حاولت منافسة الصورة المعنوية التي جاء بها وكان متحتما على ذلك الفشل لا محالة، تلتها محاولات للمحاكاة على الأقل، وآل ذلك إلى الفشل بطبيعة الحال.
وعودة لجواز الاقتباس من عدمه؛ برر الذين أجازوا هذا الفعل بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتبس من القرآن الكريم وكذلك الصحابة والتابعين، سواء بأخذ الألفاظ أو استعارة المعاني. ونجد هذا الأمر حاضرًا أيضًا بين متحدثي اللغة العربية في الحاضر والمتقنين لها تحديدا. حقيقة لابد من التركيز أنّ الاقتباس من القرآن يتطلب دقة فيما يتعلق بالمواضع والمواضيع التي من الممكن الاقتباس فيها من عدمها، ومما ذكر في دراسة بلال الأرفى لي وموريس بومرانتس أيضا مسألة الاقتباس في المعاني. فيتم الاستدلال بالمعاني التي جاء بها القرآن الكريم في مواضع مثل تفسير الأحلام- ناهيك عن مدى صحة أو جواز هذا الفعل من عدمه – حيث ضرب على ذلك مثلا؛ اللحم ذكر في القرآن الكريم وربط بالغيبة، فما يقوم به بعض المقتبسين بتفسير رؤية اللحم بالغيبة، يعد ذلك نموذجًا لمواضع الاقتباس من عدة مواضع أخرى. ومن هذا المنطلق وبعد المرور على الدراسة نعود إلى مسألة النسبية في الأمور المتعلقة بالدين طالما أنّها لا تضر ولا تمس الأساسيات العقائدية، ففي مسألة الاقتباس، من الممكن فهم أنّ جواز ذلك من عدمه يرتبط بمواضع ومواضيع وآلية الاقتباس قبل كل شيء، وإن كان الأمر يرتبط بالقدرة على الوصول إلى سياقات تليق باقتباس آية قرآنية ووضعها بين السياق، يتحتم علينا القول – بناء على ما يكرره المتعمّقون في الجمال الأدبي للقرآن الكريم واللغة العربية والمتقنون لها بشكل كامل – أنّ القرآن يبقى كلام الله المنزل المنزه ولن يتساوى مع الاجتهادات البشرية أيا كان مستوى احترافية اللغة والقدرة على التعبير لديهم.
