فاطمة بنت ناصر
نشرت مجلة التفاهم مقالا كتبه أستاذ الفلسلفة المغربي محمد المحيفيظ يستعرض فيه فكر الفيلسوف الكندي تشالز تايلور وإسهامه الفكري المتعلق بفهم هويّة الإنسان المعاصر. وتتمثل أهمية هذا المقال من وجهة نظري في أنّه يعرفنا باسم مهم ولكنّه لم ينل نصيبه من التعريف في العالم العربي الذي ركّز على اجترار نفس الأسماء المعروفة والتي رحلت عن دنيانا مثل: (ﺃﺩﻭﺭﻧﻮ، وحنة ﺁﺭﻧﺪﺕ، وﻫﺎﻳﺪﻏﺮ وغيرهم). إنّ استعراض نتاج الفلاسفة المعاصرين وعرض آرائهم مهم جداً لتجاوز ما عهدناه من الاحتفاء بالمفكرين بعد وفاتهم. فهؤلاء يحاكمون الواقع الذي نحياه مستندين على ثقافة غزيرة تؤهلهم لمحاكمة الحاضر ومقارنته ومقاربته بالعناصر التي شكّلت الماضي كذلك. ولابد من التنويه أن القادم يستعرض الإنسان الغربي وحضارته والتي بلا شك أثرت فينا وتأثرنا بها ولكن لايمكن إخضاع ما قاله تايلور بشكل حرفي على الحاضر الإسلامي والعربي على وجه الخصوص بسبب اختلاف التجربة واختلاف الأصول والمنطلقات بين العالمين.
يؤمن تايلور بأنّه لابد من تتبع ما شكل هوية الإنسان المعاصر لنفهم إشكالات الحاضر الذي يعيشه؛ وذلك لأن فهم ذواتنا بشكل جيد هو أفضل سبيل للحكم على إشكالات الحاضر ومهدداته. ويرسم تايلور سمات للإنسان الغربي المعاصر تتمثل في كونه:
- يتّسم بأنّه كائن متجرد وعقلاني: يحكم على الأمور كموضوعات مجردة يحللها من خلال شخصيته المفكرة.
- هو فرد حر: يقدس حريّته ويربط وجوده وإنسانيته بها؛ لذلك يتوجس من كل أشكال الوصاية الخارجية أو حتى الداخلية الموروثة.
- يقدر الحياة العادية: على عكس التوجهات التي تقلل من شأنها وتعلي من شأن الحياة التأملية الفكرية أو حياة الحرب والفرسان أو حياة الزهاد والمتنسكين. الإنسان الغربي المعاصر يعلي من قيمة العمل وتكوين الأسرة وتوفير الصناعة وتوفر المنتجات الاستهلاكية. وهو بذلك يحاول تجنيب نفسه من التعرض للآلام وظهر ما يمكن تسميته (أخلاقيات الرعاية- ethics of Benevolence). التي تولي اهتماماً كبيراً بتوفير الرعاية الاجتماعية ومحاولة تجنيب الناس كوارث من العهود السابقة كالمجاعات والأوبئة، فيسعى الناس بشكل مستمر لتجنيد أنفسهم لمكافحتها والتوعية بشأنها).
منابع الأخلاق
لنفهم الهوية الحديثة علينا أن نفهم المنابع الأخلاقية التي يعتقد تايلور أنّها ساهمت في تشكيل هوية الإنسان الأوروبي الحديث وهي حسب الترتيب:
1- المصدر التأليهي المتمثل في الأديان
2- المذهب الطبيعي للعقل المتجرد
3- المكون التعبيري والرومانطيقي
وعلى الرغم من أنّ الأديان اختفت بشكل كبير من المشهد العام إلا أنّ أثرها لا يمكن إنكاره في تشكيل مفاهيم الذاتية الأولى كأعمال (القديس أوغسطين). كما أنّ الدين في أوروبا أبرز قيمة الكرامة المتساوية للناس التي تسعى كل المجتمعات الحديثة إلى صونها وترسيخها، بالإضافة إلى التأكيد على أهمية الحياة العادية للأفراد المتمثلة في تثمين الحياة العائلية باعتبارها حياة فاضلة وخيرة.
أمّا العقل المتجرد فمرتبط بالفيلسوف ديكارت الذي اعتبر الإنسان كائنا عقلانيا متجردا من كل تشويش قد يؤثر على تفكيره كالعواطف والتقاليد والعادات وما شابهها. أسهم هذا التفكير في أمور أهمها: التأكيد على الحرية وإعلاء قيمة الفردانية والعمل على ترسيخ الكرامة الإنسانية واستغلال الموارد الطبيعية بهدف رفاهية الإنسان. كما أنّه أكّد على قيمة الحياة العادية (تكوين الأسرة والعمل).
في الجانب الآخر نجد أن العامل الثالث المتمثل في التعبير الرومانطيقي أوجد مفهوما آخر يبدأ من كون الطبيعة هي المصدر الحقيقي ومنها سنجد الحقيقة. وقد ساهمت في تأكيد الفردانية وتشجيع العمل الإبداعي والتأكيد على قيمة الأصالة.
ولهذا؛ نجد أنّ أعمال تايلور تشدد على الأخذ بهذه العوامل الثلاثة، والتأكيد على أن الأخذ بواحد منها فقط لتحليل هوية الفرد الحديث هو اختزال سطحي لمسألة عميقة.
وقبل أن نبدأ في ذكر أهم ما توصلت إليه نتائج بحوث تايلور، نستعرض منطلقاته:
- الجينالوجية والأنطولوجيا: هذا الجمع بين الجينالوجية والتعمق في الدراسة الوجودية (الأنطولوجيا) لم تجعل تايلور فقط يقوم بتوصيف الحدس الأخلاقي والروحي ولكن مكنه من فهم أصول هذا الحدس ومحفزاته وعلله التي أوجدته. فهي ليست بأمور طارئة ولكنها امتداد لتاريخ بشري طويل لا يمكن عزل تأثيره عن تكوين الإنسان المعاصر.
- التقويم القوي (Strong Evaluation): ما يحدد اختياراتنا الأخلاقية ليست آراؤنا الشخصية حولها، فكل ما نعتقد أنّه خير أو شر - أفضل وأسوء- أسمى وأرذل، كلها محددة مسبقاً من شيء مثالي نطمح أن نصل إليه. لهذا؛ شرع تايلور في تتبع أصول تفضيلات الإنسان الغربي المعاصر، وخرج بتفسيرات مثيرة نستعرضها في القادم.
تشريح تايلور لعلل الحداثة وأوجاعها
خرج تايلور بعد مقارناته وتحليله إلى ثلاثة ملامح لخص فيها ما تعانيه الحداثة وهوية الإنسان الأوروبي اليوم.
أولا: الفردانية النرجسية: تحولت الحرية من أمر يحفظ كرامة الإنسان ويساعد على اندماجه مع مجتمعه إلى مفهوم نرجسي منغلق. فتحولت الفردانية الخيرة التي تعكس خصوصية اختلاف كل فرد فينا إلى فردانية شريرة وعدوانية أحياناً. لهذا نجد على المستوى السياسي وجود ليبراليات متطرفة نتجت منذ الستينيات التي ازدهر فيها خطاب (التفتح الذاتي والازدهار الشخصي)؛ فقد تم بتر الأصالة من علاقتها بأصل الشعوب والانتماء إلى جماعة لتكون أصالة تعكس تفرد الفرد وكأنه كائن منفصل لم تؤثر فيه جذوره. وهذا أمر غير واقعي؛ فالملمح الرئيسي الذي شكل كافة البشر يكمن في (الحوار) مع الآخرين وبتره عن السياق ينتج أفرادًا أنانيين متطرفين في نزعاتهم يسعون لأهداف ذاتية.
ثانياً: هيمنة العقل الأداتي: ونرى ذلك في النزعة اللاهثة لزيادة الإنتاجية والرفاهية الفردية؛ فنجد ضررًا يقع على الفقراء بدعوى تعزيز الاقتصاد، كما نجد الطبيب يسعى لتخصيص جائر وقد أهمل علاقته الإنسانية، وأصبحت المهنة مجرد وسيلة للربح لا أكثر.
ثالثاً: السجن في قفص الاستبداد الناعم: الإنسان الأوروبي يعيش اليوم حالة انعزال لتحقيق غاياته الفردية وهذا أدى إلى اختياره السيء لمن يمثله، فنجد أن الاختيارات الحديثة تأتي لصالح مرشحين يسعون لزيادة هذه الهوة، وهدفهم الأوحد تحقيق المصالح المادية. ولكي نتحرر من سلطة هذا الاختيار الفرداني النرجسي علينا السعي لتحقيق (ديموقراطية حيوية) غير منعزلة وغير نرجسية متفاعلة مع محيطها وحافظة لحقوق الجميع ساعية إلى لم شتات المجتمع وإخراج الأفراد من تقوقعهم الذاتي.
ختاما، أتمنى أن يكون هناك تحليل مشابه لاختيارات الفرد في الوطن العربي اليوم، الذي يبدو قد تأثر بموجات الفردانية النرجسية فبات منغلقاً على ذاته، وقابلاً للظلم الذي يعق على غيره في سبيل تحقيق رفاهيته الشخصية.
