طه عبدالرحمن.. هل يمكن فصل الإيمان عن صياغة العهد الأخلاقي العالمي

فاطمة بنت ناصر

يستعرضُ الباحث المغربي حفيظ هروس -في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم"- مشروع الفيلسوف المغربي د. طه عبدالرحمن، فيما يتعلق برؤيته في صياغة العهد الأخلاقي العالمي. وهو بذلك يختلف مع اجتهادات المنظمات الأممية الحالية والتي تقصي الدين في صياغتها للمواثيق الإنسانية العالمية كحقوق الإنسان والأخلاق التطبيقية؛ مثل: أخلاق الإعلام، وأخلاق البيئة، والأخلاق الطبية... وغيرها. وقد ركز د.طه عبدالرحمن على ما خرج به مؤتمر برلمان الأديان عام 1993، وهو " إعلان من أجل أخلاق عالمية". والذي قام الدكتور طه بتفنيده وتحليله وعرض رؤيته الخاصة عنه. وفي هذا المقال، سأعرض رؤية الدكتور طه ومشروعه العالمي للأخلاق، ثم سأختم بوضع رأيي المتواضع في هذا الأمر.

تعاطي الفيلسوف طه عبدالرحمن مع "الإعلان من أجل أخلاق عالمية"، الصادر عن برلمان الأديان عام 1993 (شيكاغو):

لقد قام هذا الإعلان على مبدأين أساسين؛ هما:

1- مبدأ الإنسانية: الذي هو أساس ينبغي الالتزام به في التعامل فهو حق لكل البشر؛ فإنسانيته محفوظة ويجب أن يعامل بها.

2- مبدأ التكافؤ أو التبادل: الذي يكفل حرية جميع المعتقدات والقناعات وأن نتعايش معها دون أن يكون لأي طرف ميزة على الآخر، وأن يعامل كل فرد منا الآخر بالكيفية التي يرغب الآخرون أن يعاملوه بها.

ومن ناحية أخرى، قام د. طه عبدالرحمن بمعالجة هذا الإعلان بتطبيق معتقداته وأفكاره.. وأهم هذه الأفكار:

أ- الارتياب: وهي الحالة التي يعيشها جزء كبير من العالم اليوم بسبب غياب الإيمان، الذي يرى الدكتور أنه السبب في غياب الأخلاق أيضاً؛ فهو دائم الربط بين حضور الإيمان وحضور الأخلاق.

ب- التنازع: بين الناس والأمم المستندة على القوة والمصلحة لتحقيق "حب التملك". ومن مظاهره الدماء المسفوكة في مختلف أنحاء العالم.

ج- الطغيان: أو "حب التسّيد" لدى الحكام ومن مظاهره تأليه الحاكم واستعباد الناس، ويطبق بواسطة التسلط على المواطنين وترهيبهم. (وهذا الأمر كما أراه أشد حضورا في العالم الإسلامي وبقايا الدول الدكتاتورية ككوريا الجنوبية، ولكنه شبه منعدم لدى الديموقراطيات المتقدمة).

د- التسليع: في كافة المجالات والرأسمالية التي يكون فيها السوق هو المسيطر؛ فيتم تكريس النزعة الاستهلاكية والتفقير والتلوث في جشع أناني لا يبالي سوى بمادياته، غير آبه بمصير البشر والأرض.

هـ- السيادة: التي يرى فيلسوفنا أن محركها هو ( العقلانية) ويقصد بها سيادة المجالين العلمي والإعلامي. ومن مظاهرها الشذوذ الجنسي وتفكك الأسرة والأسلحة الفتاكة. (غير أني أرى أن العقلانية براء من هذه التفهم فالعقلانية هي مرادفة (للتدبر والتفكر والتعقل) الوارد في القرآن في مواضع كثيرة، وكلها تعني إعمال العقل. أما أن العقلانية سبب الشذوذ فهو أمر غريب فهل كان قوم لوط من العقلانيين؟!).

ويرى الدكتور طه أن الإعلان تجاهل مبدأين أساسيين -في وجهة نظره؛ هما: غياب الإيمان والعمل الديني.

فالإعلان حيد الدين من أي ذكر، ويرى فيلسوفنا أن أهل الدين سبقوا أهل العقل في الدعوة إلى توحد البشر. وأن الفكر الإنساني لا يمكن أن يقوم على العقل وحده؛ فالإيمان كما يرى ليس مجرد ميل وهوى، بل يملك من الحقائق ما لا يطيقه الفكر خاصة فيما يتعلق بالدعوة إلى توحد البشر، وهي ذات الدعوة التي يريد الإعلان معالجتها ولكنه حذف الإيمان من صياغتها.

 

مفاهيم الفيلسوف طه عبدالرحمن مفاتيح لإدراك مقاصده ومبتغاه:

إنَّ القارئ للفيلسوف طه عبدالرحمن قد يجد اصطلاحات جديدة عليه وقد يستغربها في البدء؛ لأنها ذات وقع جديد على الآذان، غير أنَّ تلك المفاهيم كما رأيتها -وعلى الرغم من تعقيدها اللغوي- بسيطة الفهم والشرح. وهذه المفاهيم تمثل مفاتيحَ لنا حيث أن معرفتها تجعلنا نعلم توجه الفيلسوف وما يميل إليه وما ينشده. وأهم تلك المفاهيم:

* الانفصال: فهو يرى أن الإعلان لا يمكن أن يحقق مبتغاه لأنه يعمل على مبدأ الانفصال (فصل الدين عن العمل الأخلاقي)؛ وذلك من خلال تعامله بمبدأ التظهير الذي يتبعه مفكرو العهد الحديث؛ حيث يؤمنون أن كل ما هو موجود سيظهر وكل ما ليس بظاهر هو غير موجود. وهذا ما يمثله الإيمان بالنسبة لهم؛ لهذا لم يشركوه في صياغة الإعلان، الذي يؤمن الدكتور طه أنه لن يكتب له النجاح طالما أنه قائم على فصل الإيمان عن القيم والأخلاق.

* الاتصال: لا يمكن فصل ما هو متصل. في وجهة نظره أن الإيمان متصل بالعمل الصالح والقيم والخلق؛ لهذا لا يمكن فصله من صياغة الأخلاق العالمية؛ فهو يرى أن الأخلاق مصدرها الدين وأن أهل الإيمان -كما أسلفنا- سبقوا أهل الفكر في الدعوة إلى توحيد الناس والمساواة بينهم.

* النظر الملكوتي: حيث يتم الحكم على الظواهر الخارجية من خلال سبر بواطنها وأسباب وجودها وتدبرها؛ فهي آيات من آيات الله في الكون.. فهذا النظر الملكوتي أو الآياتي يجب من وجهة نظره أن يقف أمام النظر التظهيري -الذي أشرت إليه سلفاً- والذي يعتمد على ربط الظواهر بالوجود المادي فقط.

* الإيمان الدّفّاق: هو الإيمان الصادق كما يسميه الفيلسوف وهو الإيمان الذي لا يمكن أن يتحقق سوى بالنظر الملكوتي العميق الذي يركن للتظهير والتسطيح، وإنما بالتدبر الإيماني العميق المتصل بالتفسير الظاهري والباطني.

- العمل التوّاق أو العمل الثقيل: هو العمل الصالح كما يسميه الفيلسوف طه عبدالرحمن.

الخلاصة:

بعيداً عن المفاهيم المعقدة وابتكار الأسماء الجديدة لما هو معروف ومفهوم، وهو جهد بالطبع مشكور ومحمود للفيلسوف طه عبدالرحمن، إلا أنَّ مبتغاه بسيط، وهو تضمين العنصر الإيماني في صياغة المفاهيم الأخلاقية العالمية، رغم أن فصل الإيمان عن صياغة الإعلان جاء من خلال مؤتمر الأديان الذي خرج به مؤمنون من شتى الأديان! وهذا دليل بسيط على أن المؤمنين اختلفوا في إشراك الإيمان أو فصله عن صياغة الأخلاق العالمية. فالإعلان على عكس ما تكلم عنه الفيلسوف لم يصدر من غير المؤمنين أو العقلانيين أو التظهيريين (إن تكلمنا بنفس لغة الفيلسوف)، بل هو صادر عن مجمع يمثل أمثاله من ممثلي الأديان والمؤمنين. لم يناقش الفيلسوف ذلك وكان يخاطب من خرجوا بهذا الإعلان وكأنهم من غير المؤمنين.

وأتمنى أن يعذرني فيلسوفنا الكبير في عرض ما أراه ( ولكن الاجتهاد كالعلم لا عمر له). سأعرض نقاط اتفاقي معه ونقاط اختلافي كذلك:

1- أتفق معه: في الدور الذي لعبته الأديان في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والعمل بها. وفي نظرة الأديان إلى توحيد الناس وجمعهم.

أختلف معه: في أن تطبيق ما تدعو إليه الأديان كان ولا يزال في أيدي البشر الذين فرقوا الأديان إلى شيع ومذاهب، فاقتتلت بها، وقد فرقوا بها خلقا كثيرا أكثر من لم شملهم بها. فكيف ونحن ندرك كل ما سفك من دم لم يراع خلقا ولا دينا؛ وباسمها لازلنا نعتقد أن إشراكها في صياغة أخلاق عالمية سيلاقي إجماع الجميع وقبولهم!

وختاماً، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ". إن كانت هذه إرادة الله فكيف نريد تغليب رأي المؤمنين على غيرهم؟!

أخبار ذات صلة