ناصر الكندي
في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "المدرسة بوصفها مؤسسة للتعليم في العصر الإسلامي الوسيط" للباحث الألماني سباستيان غونتر، وترجمه رضوان ضاوي، يقدم الباحث فكرة عميقة عن تطور مفهوم المؤسسة التعليمية في الأحياء الإسلامية في العصر الوسيط، وبالتحديد منذ القرن السابع إلى القرن الرابع عشر. حيث يقدم سباستيان في البداية نصًّا يعود للقرن العاشر الميلادي لأبي بكر بن جعفر النرجسي يتحدث فيه عن وجود المدارس في أوزبسكتان، وبالتحديد بخارى وسمرقند. ويشير الباحث إلى أن دراسته تتكون من جزأين: الأول عن المبادئ الأساسية للتعلم الإسلامي في الإسلام المبكر، والثاني مخصص للجامعة-المدرسة وخصائصها من جانب التنظيم الإداري والتعليمي.
ووفقا للباحث، فإن مبادئ التكوين للمؤسسة التعليمية في الإسلام تعود إلى:
1- القرآن والسنة النبوية؛ حيث يذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على التعليم والكتابات العربية الكلاسيكية التي تضم معهد التعلم وأشكال التعليم، والتي تشمل المنازل الخاصة للعلماء، ويتجلى ذلك عند الشافعي، والمدرسة الابتدائية والمدارس المبكرة التي تكون في الجوامع والغرف الجانبية من بداية النصف الثاني من القرن السابع.
2- التعليم العالي؛ ويشمل السماعات ومحاضرات عمومية ضخمة تصل إلى 20 ألف شخص أيام البخاري، وحلقات الدرس الفردية المخصصة للخلوات مثل المتصوفة، والجامع ويعد جامع الزيتونة في تونس أقدم وأشهر جامع؛ إذ تعود بداياته إلى القرن الثامن وكذلك الأزهر والقيروان... وغيرها.
ويؤصل الباحث مفهوم "المدرسة"؛ إذ تشتق كلمة المدرسة العربية من الجذع الأساسي للفعل "درس"، الذي يعني في الشعر العربي القديم والعربية الكلاسيكية "ترويض الحيوان" أو بشكل عام "علّم"، ومن ثم فإن المدرسة تعني مكانا مقروءا. ومن الناحية اللغوية ليس لكلمة مدرسة بالضرورة دلالة دينية. أما في الفترة الكلاسيكية من الإسلام فإن كلمة المدرسة تشير قبل كل شيء إلى تأسيس تعليم متخصص ومهني في الشريعة الإسلامية، وهذا هو السبب أيضا في أن المدرسة تُترجم غالبا إلى اللغة الانجليزية والألمانية كجامعة أو معهد الشريعة أو معهد الشريعة الإسلامية.
ولعبت المدن والمناطق الواقعة إلى الشرق من الإمبراطورية الإسلامية دورا رائدا في تشييد وتطوير المدرسة؛ ومنها: مدينة بخارى ونيسابور. ويطرح الباحث سؤالا بشأن سبب اللجوء إلى الجامع من أجل إنشاء مدرسة بوصفها مؤسسة للتعليم العالي الديني والقانوني؟ وفي رأيه هناك 3 جوانب:
أ- التطور الديناميكي للغاية للثقافة أوالحضارة الإسلامية في عهد العباسيين جعل من الضروري أن تتكيّف أساليب التدريس والتبادل العلمي مع الاحتياجات الاقتصادية والثقافية المتنامية.
ب- كان القرنان التاسع والعاشر الميلاديان عصرا للتفاعل الحيوي، والذي عزز هذا النوع من التعليم مكانة الطقوس الشرعية ووضعية التدريس الشرعية التي يتم تدريسها.
ج- سفر التلاميذ إلى عالم معين لفترة معينة من الزمن لدرجة تقديم هذه المدارس خدماتها بصفتها ليس فقط مؤسسة تعليمية بل أيضا بصفتها نُزُلا.
وهناك أنواع للمدرسة بوصفها جامعة عامة؛ مثل: المدرسة النظامية والمستنصرية. وارتبطت الأولى باسم نظام الملك في القرن الحادي عشر وهو وزير الدولة في دولة السلاجقة، وأُنشئت مدرسته في بغداد وبعض أطراف الامبراطورية ، وهي تعد مدارس حديثة ومؤسساتية وبها هيئة تدريسية محترفة لكن بدون أن تُزاحم الجامع من مكانته العلمية، وتولى أبو إسحاق الشيرازي أول كرسي تعليمي للفقه الشافعي، وكذلك الفقيه الشافعي والصوفي أبو حامد الغزالي. وأما المؤسسة المستنصرية فهي مدرسة للشريعة الإسلامية، ولأول مرة أصبحت عالمية؛ إذ تم تدريس المذاهعب الفقهية الأربعة فيها. وهي المدرسة الوحيدة التي يملكها الخليفة العباسي وأساسها المالي من عدة عقارات وقرى، وقد أشار إليها ابن بطوطة في مؤلفه "رحلة ابن بطوطة". وعلى الرغم من تدمير معظم المؤسسات التعليمية في العصور الوسطى في العراق من خلال الغزو المغولي عام 1258، تم إنقاذ المستنصرية من هذا المصير.
ويعرج الباحث إلى دوافع بناء مؤسسات الجامعات الدينية ومنها زيادة حاجة الحكام لموظفي الدولة المتعلمين أكاديميا في مجالات مختلفة، وسماح الأساس المالي الذي يقدمه الأفراد والمسؤولون الحكوميون في شكل مؤسسات بالتدبير المالي السليم والطويل الأجل لمثل هذه المرافق، وإسهام التنافس الثقافي بين بغداد السنية والقاهرة الخاضعة لحكم الشيعة الفاطميين في تكاتف الحكام في بغداد من خلال مبادرات سنية متظافرة في مجال التعليم المؤسساتي لمواجهة التأثير الشيعي المتزايد. ويتحدث الباحث عن منهاج وأهداف الدراسة؛ إذ يضم المنهج الدراسي في الجامعات خمس مجالات: الدراسات الدينية، والشريعة الإسلامية، واللغة العربية، والمنطق، والحساب. ويهدف تصميم المواد إلى ضمان استعداد خريجي المدرسة الجيدة للقيام بهذه المهمة، وفي الوقت نفسه يكتسبون الإيمان الحقيقي. وهناك غياب للفلسفة العربية واليونانية عن المناهج الدراسية العادية وذلك لأنها متناقضة مع المذاهب التوحيدية المركزية للإسلام.
ولم يكن مسموحا للنساء بولوج المدارس، إلا أنهن كن قادرات على المشاركة في المحاضرات والحلقات الدراسية في الجوامع. ويكون التنظيم الإداري للمدارس بأن تقوم إحدى المؤسسات الوقفية بتأمين الأساس المالي لدفع رواتب المعلمين والموكلين الإداريين. وكان المعلم يُسّمى "مدرّسا" ولديه في الغالب مساعد أو ناسخ أو كاتب، ولم تعرف الدراسة في المدرسة الكلاسيكية أي نوع من الامتحانات الرسمية. وتتسم الدراسة في المدرسة بالطابع الشخصي مما يعني استمرار العلاقة المباشرة بين الأستاذ والتلميذ، والتي هي سمة مميزة للمنشآت التعليمية للإسلام المبكر والوسيط. وتتضمن قواعد السلوك في الحصة وفي الدراسة تركيز التلاميذ على الأفكار الرئيسة المقبولة بشكل عام في تخصص علمي معين وتجنب الاختلافات في الرأي بين العلماء، وكان الإشراف على مراقبة ما تم تعلمه من دروس الأستاذ، إضافة إلى التكرار المنتظم من المكوّنات الشائعة في التدريس بالمدرسة. وكانت الكتب تتمتع بسمعة عالية في مجالى التدريس الإسلامي في العصور الوسطى. كما كان السلوك المهذب والمحترم داخل الفصل جزءا من مدونة السلوك العامة.
يقدم الباحث في نهاية الدراسة ملاحظات ختامية؛ أهمها: أسهم إنشاء شبكة واسعة من المدارس بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر في إضفاء الطابع المهني المرئي والمؤسساتي على التعليم الإسلامي ذي التوجه الديني، ومكّنت هذه المدارس من توفير التعليم العالي ليس فقط للنخب المتعلمة، ولكن أيضا للطبقات المحرومة اجتماعيا، وعزّزت المدارس البنية الاقتصادية للمدينة أو للمنطقة التي تقع فيها هذه المؤسسات. وهناك جوانب سلبية من ظهور هذه المدارس وهي تقوية المحافظة الفكرية عند بعض العلماء، والرفض العام للمجالات العلمانية في التعلّم من طرف بعض الأساتذة.
