فيصل الحضرمي
الهرمنوطيقا – علم التأويل، أو التأويلية، أو التفسيرية- هي نظرية في التفسير شاع استخدامها في الدراسات اللاهوتية اليهودية والمسيحية بغرض الوقوف على صحة النصوص الدينية، ومحاولة تأويلها وفهمها، من ثم، بما يتلاءم مع متغيرات الواقع. كما امتد نطاق استعمال الهرمنوطيقا ليشمل حقولاً معرفية أخرى كالفلسفة والأدب وعلم المناهج وعلم الاجتماع والقانون والتاريخ. ويعود الجذر اللغوي لمصطلح "الهرمنوطيقيا" إلى كلمة "هيرمينيفو" اليونانية، والتي تحيل على معان عدة تتضمن معنيي "الترجمة" و "التفسير". وقد وظف أرسطو الكلمة في عنوان كتابه Peri Hermeneias "حول التأويل"، والذي بحث فيه العلاقة بين اللغة والمنطق. أما في دائرة الثقافة العربية، فقد أخضع العديد من الباحثين النص القرآني للمنهج التأويلي بغية تفسير آياته بما يتناسب مع مقتضيات الواقع المتغير، وما يستجد به من إشكالات.
ويشير الباحث محمد بن عمر في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "التأويلية وقراءة النص الديني"، إلى أن التأويلية تنفي أي سلطة للنص، وتمنحها عوض ذلك لقارئ النص/المتلقي، الذي يحق له تفسير النص وفق اجتهاداته ورؤاه الشخصية، وبما يتوافق مع ظروفه واحتياجاته. وقد أدت هذه الحرية الممنوحة للمتلقي إلى تأنيس النص المقدس، عبر إحلال الطابع البشري محل طابعه الإلهي، والتعامل معه بذات القواعد الموضوعة لكافة النصوص الأخرى. وفي حوار أجراه الباحث مع الدكتورة رقية جابر العلواني بغية إلقاء المزيد من الضوء على المنهج التأويلي وإمكاناته التفسيرية، تستفيض العلواني، المتخصصة في نقد المنهج التأويلي، في الحديث عما يعتور القراءة التأويلية للنص القرآني من محاذير ينبغي التنبه لها.
وفي بداية الحوار، تعود بنا العلواني إلى جذور ظاهرة التأويل والفهم، إذ تربطها بإشكالية قديمة تتعلق بتحديد الصلة بين العقل والنقل. ويمكن تعقب هذه الإشكالية إلى زمن الفلاسفة اليونان، حيث ارتأى فريقٌ منهم، مثل خريزيبوس (205 ق.م)، إمكانية التعويل على أحكام العقل وحده في تقدير القبيح والحسن، والصواب والخطأ. وامتد هذا التأثير إلى أتباع الديانات المختلفة، مثلما هو الحال مع زعيم مدرسة الاسكندرية اليهودية، فيلون الاسكندراني (50 م)، الذي اخترع قانون التأويل بهدف تحديد العلاقة بين الوحي والعقل، مؤكداً على الدور الذي يلعبه كلاهما في الوصول إلى الحقيقة، وعلى ضرورة إعمال العقل فيما يقرره الوحي. أما في الديانة المسيحية، فقد عُني آباء الكنيسة الأوائل، من قبيل كليمانت الاسكندراني (215م) والقديس أوغسطين (430م)، بالتوفيق بين العقل والوحي. كما شهد العصر الوسيط أطروحات القديس توما الأكويني (1274م) في نفي وجود تعارض بين العقل والنقل، باعتبار صدور كليهما عن مصدر واحد هو الله.
في المقابل، كان ثمة من نادى بوجود قطيعة بين العقل والنقل، مطالباً بضرورة قراءة النصوص المقدسة قراءة حرفية يتم فيها تغييب دور العقل تغييباً تاماً. ويأتي في مقدمة هؤلاء جماعة القرائين (ق8م) اليهودية، التي حرمت تأويل النصوص المقدسة، فرفضت الاعتراف بالتلمود باعتباره تأويلات بشرية ملفقة، واكتفت بظاهر التوراة وحرفية نصوصها. وشهد اللاهوت المسيحي هو الآخر أطروحات مماثلة، حيث ذهب ترتوليان (225م) إلى اكتفاء الوحي بنفسه، واستغنائه عن المعارف الأخرى.
وفيما يتعلق بالفكر الإسلامي، ترى الناقدة أن عملية تأويل النص الديني تجد بذورها في الإشكالات التي أفرزها اتصال المسلمين بالتراث الأجنبي، وتحديداً عبر ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية. ومن أهم تلك الإشكالات التي استدعت الحاجة لعمليات التأويل، مسائل القضاء والقدر، والصفات الإلهية، وخلق القرآن. وقد نجم عن الجدل الذي دار حول هذه المسائل ظهور نوع من التأويل يكون فيه المؤوِّل مسوقاً بالرغبة في الانتصار لرأيه كيفما كانت السبيل إلى ذلك، حتى وإن اقتضى الأمر تأويل النص تأويلاً متعسفاً، وتسخيره لنوازع المؤول الشخصية، وهو ما أشار إليه باكراً ابن تيمية وابن القيم في غير مناسبة. ونتيجةً لما وقع من عسفٍ في تأويل القرآن الكريم، فقد اجتهد العلماء السابقون في وضع ضوابط للتأويل تكون كفيلةً بحماية المؤولين من الوقوع في التأويلات الفاسدة. ولمدة طويلة من الزمن، تواضع العلماء المسلمون على أن تفسير النصوص الدينية ينبغي أن يكون وفق ظاهر معانيها اللغوية، وأن الانتقال إلى المعاني المجازية أو الكنائية، أي التأويل، لا يصح إلا بدليل أو قرينة.
إلا أن انحسار دور الكنيسة بحلول عصر النهضة، واستعادة العقل لحريته السابقة في نقد النصوص المقدسة، أديا إلى نشوء أساليب جديدة في مقاربة النصوص الدينية. وربما كانت أخطر التوجهات النقدية أثراً على النصوص الدينية ما يعرف بنظرية النقد التاريخي التي ظهرت في ألمانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي نظرت إلى الوحي باعتباره تراكماً تاريخياً يبلى مع الزمن وتحولاته. وجاءت التطورية الداروينية لتدعم هذا الاتجاه، إذ قاد استخدامها من قبل المسيحيين البروتستانت إلى إنكار ألوهية الوحي وتاريخية الإنجيل والمسيح. وفيما بعد، ستجد هذه التوجهات طريقها إلى الفكر الإسلامي بواسطة "عمليات الاستزراع" التي ترى الناقدة أنها "عبث لا طائل منه"، من شأنه أن "يورث شذوذاً عن طبائع الأشياء".
هكذا تشدد الناقدة على ضرورة استناد العقل على ضوابط تحكم نهجه في تأويل النصوص الدينية، دون أن يعني ذلك إلغاء حرية الفكر والفهم والتدبر، بعدّها أموراً أوجبها الشارع غير مرة. وأحد أهم هذه الضوابط هو أن تحتكم عملية التأويل إلى مسلمات الفكر الديني ومرتكزاته الذاتية، إذ هي الفيصل بين التأويلات المقبولة وما عداها. وهذا الضابط يستلزم دراسة الحقول الدلالية والسياق وأنواع المعنى، كما يقتضي رد المتشابهات، التي تحتمل الاختلاف، إلى النصوص المحكمة البينة، تلافياً للانحراف في التأويل. وثاني هذه الضوابط مراعاة مقاصد الشارع الرامية إلى حفظ مصالح العباد ودفع المفسدة عنهم. فبما أن الغاية من وراء النصوص الدينية تحقيق تلك المقاصد، كان من الأولى لعملية التأويل مراعاة تلك المقاصد وعدم الخروج عنها. ولا يفوت الناقدة الإشارة إلى اتخاذ بعض المؤولين "المقاصديةَ" ذريعة للي أعناق النصوص، والحل من وجهة نظرها يكمن في الاطلاع على إسهامات أئمة المقاصد، والاهتمام بتقعيد هذه المقاصد وطرق تجليتها في القضايا المعاصرة، مع ضمان عدم المساس بطبيعة النصوص وخصائصها.
