قيس الجهضمي
سعى كثير من المُفكرين لأطروحات كثيرة تخص الفكر العربي للخروج به من دائرة الانحطاط لفضاءات التقدم والحضارة، ويتناول الكاتب محمد الحداد في مقالته التي بعنوان "القيم الدينية والتنمية وإنسانية الإنسان في الفكر العربي الحديث والمعاصر" والمنشور بمجلة التفاهم أهمية الاشتغال على ثلاثة محاور مهمة وهي القيم الدينية والقيم الإنسانية والتنمية في مشروع واحد للخروج من الوضع الراهن لوضع يجعلنا في مصاف الشعوب الحضارية، وهو يختار المفكر الجزائري مالك بن نبي في مقالته المذكورة آنفًا كشخصية حاولت الجمع بقدر المستطاع بين المحاور الثلاثة في مشروعها الحضاري.
يُعتبر المفكر عبدالله العروي من الأوائل الذي حللوا الفكر العربي خاصة في كتابه "الآيديولوجيا العربية المُعاصرة"، وهو يقسم التيارات التي شكلت الفكر العربي إلى ثلاثة تيارات، الأول كان تيار الشيخ ويُمثله الشيخ محمد عبده، وينظر هذا التيار لكل القضايا من خلال القيم الدينية، ويعتقد بأن هناك تضادا بين الغرب والشرق أساسه القيم، أما التيار الثاني فكان التيار السياسي ويمثله لطفي السيد ويرى العروي أنَّ هذا التيار أظهر أفكار التنوير والديموقراطية وأنه يدعو لنبذ الماضي، وقد كان التيار الثالث تيار داعية التقانة ويمثله سلامة موسى إذ كانت التقنية الحديثة فيه هي القوة التي توصل الإنسان للحضارة، وأن هذه التقنية خالية من القيم، وكان العروي مهتماً بالأخير بحالة صدام التقنية الحديثة بالواقع المعاش.
لقد تأسس الخطاب العربي على رد الفعل بسبب تراكم المشكلات الكثيرة عليه التي لم تجعل له فرصة للتفكير بهدوء، لذا كان لابد للخروج من هذه الحالة بوجود شخصيات جمعت بين عوامل متعددة في الفكر العربي، ويرى الكاتب أن المفكر الجزائري مالك بن نبي هو إحدى هذه الشخصيات، إذ وعى مالك بن نبي بضرورة بناء مشروع متكامل يشمل القيم الدينية والإنسانية والتنمية وأنسنة الحضارة بدل إلقاء اللوم على الغرب واستخدام الدين للدعوة إلى مواجهته، وقد حوّل مالك بن نبي المقاومة من الفعل الغريزي إلى أن تكون فعل العقل، بمعنى أنه قائم على الأطروحات العقلية والفكرية الداعية للمقاومة بدل استعمال العاطفة لتحريك الفعل الغرائزي. ويرى ابن نبي أن علة التضاد بين قيم الشرق والغرب ليست هي سبب مشاكل الفكر العربي، بل قام بطرح مفهوم جديد "القابلية للاستعمار" ليُؤكد على أن الذات العربية أيضًا لها نصيب في هذا الأمر، وقد سعى إلى توظيف القيم الدينية للمحافظة على الهوية وإعادة إنسانية الإنسان، وقام أيضًا بتوظيفها في مجال التنمية، بمعنى أنه لم يجعلها دافعا ضد الاستعمار بل استعملها كدافع لبناء الحضارة.
يذكر الكاتب أن ابن نبي يرى أن مشكلة كل شعب هي الوصول للحضارة، ولا يكون له هذا إلا بأن يرتفع بالأحداث التي تخصه ويربطها بالأحداث الإنسانية العامة، وقد كان ابن نبي ممن شجعوا دعاة اليقظة الإسلامية من باب أنه كان يوجههم قول الله تعالى "إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ورأى أن الإصلاح لا يتأتى إلا بالقراءة الصحيحة للماضي والحاضر والمستقبل، وبحسب رأي ابن نبي فإنَّ السياسة التي تجهل قواعد الاجتماع ستكون عاطفية فقط، ومن أهم مشاكل العالم الإسلامي تعاطيه مع القضايا التي يواجهها بتجزأتها وليس جمعها وحلها في شكل متكامل، لأنَّ الحضارة بحسب رأي ابن نبي هي "إنسانية جامعة"، ولكن اشتغال المسلمين بالجزئيات أفقدهم البوصلة فأخذوا من الغرب المادة دون أن يستلهموا منها الروح، كما كان ابن نبي ضد استعمال القيم الدينية كوسيلة دفاع لإثبات الذات ضد الاستعمار أو كدافع للمقاومة، لكنه يرى أنَّ هذه القيم هي من شروط الحضارة وجعلها من مرتكزاتها.
اشتملت الخطابات النهضوية في الفكر العربي على محاور متعددة، أهمها الدعوة للأخذ من الآخر وتأكيد مشروعيته عن طريق الفصل بين الدين والحضارة الحديثة، وفي تحليله -ابن نبي- للتطور الحضاري للبشر يرى أنَّ كل حضارة مرتبطة بمنظومة قيمية دينية، ويستبدل الأطوار الثلاثة للحضارة التي وضعها ابن خلدون بأطوار ثلاثة من النص القرآني، وهي طور الميلاد قائم على الروح وطور الاستقرار قائم على العقل وطور الأفول قائم على الغريزة. ويرى ابن نبي أن الدين يهيئ للإنسان دخوله للحضارة وفقدانه له لا يحوله من حضارة لأخرى، فقد كانت الإشكالية ليست في الماضي فقط بل أيضًا في الحاضر الذي حاولت فيه المجتمعات الإسلامية قراءة تاريخها للوصول لحضارتها الحديثة، وكان استعمال الدين فقط لتجييش العاطفة للحصول على تأييد الشعب للممارسات السياسية، ومن استعماله المكثف بهذه الطريقة لم يفسح مجالا لنشأة فكر ديني تجديدي، لذا بقي الدين يعمل فقط في مستوى الغرائز، ويرى أيضاً أن الخطابات التي كانت لأجل المقاومة غطت على المحاولات الإصلاحية داخل المجتمع والتفكير في مشاريع حضارية جديدة.
وقد كان مالك بن نبي من الأوائل الذين طرحوا مسألة ارتباط القيم الدينية بالاقتصاد، فقد أكد على الترابط الوثيق بين التنمية وقيم الأمة، ورأى أنَّ الاقتصاد تجسيد لحضارة الأمة، وميز ابن نبي بين "الاقتصادوية التي تسعى إلى حل مشاكل التنمية بصفة غير موضوعية وخارج الإطار الحضاري العام وبين الاقتصاد الذي يوفر التنمية بالتلاؤم مع محيطه وبيئته بالارتباط مع القيم الحضارية بالمجتمع".
ويرى الكاتب أنَّ سبب فشل مالك بن نبي يعود إلى عوامل ذاتية متعلقة بشخصيته، فأغلب كتاباته كانت بلغة المستعمر "الفرنسية" وقد أخذت وقتاً طويلاً في ترجمتها ووصولها للقارئ العربي، والتناقض في أن يكتب عن تأسيس نهضة ذاتية لكنه يبتعد عن الذات ويكتبها بلغة المستعمر، وما عاشه من توترات بينه والمعاصرين له مما أشعره بالظلم والكآبة ومروره بأوضاع صحية صعبة، أما موضوعياً فكان الاستعمار هو الدافع لدخول الدين في مجال السياسة بشكل مُفرط بشكل طغت فيه العاطفة على العقل الذي لم يجد مجالا للتفكير في المشاريع الإصلاحية والتي تدعو للتنمية، وقد كان مالك بن نبي يعمل مثل غيره من ممثلي الخطاب العربي تحت ضغط الظروف القاهرة والإكراهات المتعددة، ومن وجهة نظري كان على العربي أن يشتغل على الروح الحضارية التي هي المحرك لما بعدها من أشياء مادية وعقلية في جميع المجالات الإنسانية، وليس الخوف والتقوقع في دائرة الدين واستقبال الأشياء مجردة من روح الحضارة، فالدين متجدد والقيم تتجدد بما يتناسب مع ظروف الواقع بشرط إدراك الروح الحضارية الفاعلة في الأشياء والموجهة للنظم الحضارية واستعمالها بما يضمن ترقي المجتمعات العربية بدل افتعال العداوة معها بسبب كون هوية مسحتها من دين آخر.
