قيس الجهضمي
إنَّ لامتداد الكنائس والحركات المسيحية في أمريكا الأثر البالغ في تحريك الخيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ليس في أمريكا وحسب بل امتدت إلى آفاق بعيدة في العالم، لذا يتناول الكاتب عزالدين عناية في مقالته "حركات الإنجيليين الجدد: معنى ظهورها وانتشارها"، المنشورة في مجلة التفاهم، هذا الحراك الديني الذي زحفت فيه الكنائس والأحزاب الدينية المسيحية بقوة في شتى أنحاء العالم والذي يطلق عليه "الإنجيليون الجدد"، إذ تتميز الساحة الأمريكية بمزيج خاص بين الديني والسياسي حسب ضوابط وأعراف تأسيسية يطلق عليها الآن مفهوم "الدين المدني".
يرى الكاتب أنَّ من الدوافع الرئيسة لمنشأ هذه الحركات وتطورها هو تحرر السوق الدينية في أمريكا مع تضافر روح الابتكار والمبادرة في المجال الديني أيضاً، وأن الواقع الديني الأمريكي لا يتحرر من سلطة الدولة بل يحضر فيها ويتشكل مع بنيتها، وهذا هو الذي يميزه عن الواقع الديني السياسي في أوروبا، وما يميز هذا الواقع الديني المدني هو أنه لا يتعارض مع لائكية الدولة بل يشكل أحد الأعمدة التي يقوم عليها، أما في تحديد أصول هذا التيار الإنجيلي في الولايات المتحدة فيذهب العديد من الباحثين إلى نسبته للراعي إيساك وليام كنيون ولاهوته الذي يقول فيه بأن قوة الإيمان قادرة على تغيير الواقع المادي، بينما تذهب الكاتبة كايت وارد إلى أنَّ قيام هذا التيار راجع إلى تأثير نظرية آدم سميث بخصوص "الأحاسيس الخلقية حيث يكون الإعجاب بمن يحقق نجاحًا في الحياة".
يعود انتشار هذا الفكر الإنجيلي الجديد إلى قوة مؤسساته الميغاتشرش "الكنائس العملاقة"، وإعلام "التليفانجيليست" المبشرين التلفزيونيين، وبكارزما المبشرين، وأيضاً التعاون الوثيق بين الإعلام والاقتصاد والسياسة الذي ساهم في تفشي الظاهرة الإنجيلية، وقد كان هذا التطور الإنجيلي عن طريق استبطان الدين المبسط لدرجة جعل الإيمان يصل لمرحلة الإيمان بالخوارق. كما أن "لاهوتيي الرفاه" الإنجيلي يروجون في الراهن لفكرة أن الغنى هو في ارتباط وثيق مع الإيمان الشخصي، وفي حل تام من معناه الاقتصادي والاجتماعي المبني على التقشف والتزهد العملي في الحياة، وبالنسبة إلى عدد الإنجيلين الجدد فإنِّه يقدر بأربعمائة مليون شخص حول العالم، وعددهم في الولايات المتحدة وحدها يُقدر بنحو ثمانين مليونا، وبما أن الهرمية غائبة في مثل هذه التنظيمات فهي تخلق فضاء من الحرية لأفرادها، فهناك من يفسر أن أصحاب هذا التيار يعيشون حياة روحانية ولديهم سيولة في الدين غير مضبوطة بقوانين معينة، وقد ترك الإنجيليون الجدد العمل التقليدي المنحصر بالتبشير إلى صناعة كنائس جديدة ذات تركيبة اجتماعية شاملة تحوي بداخلها كل المُؤسسات الاجتماعية المطلوبة لرفاه الإنسان.
يذكر الكاتب أن ملخص التصور الديني للإنجيليين هو في لاهوت الرخاء حيث إن الرب يريد لأتباعه حياة الرفاهية وأن يعيشوا أغنياء، وفي استبطان مركزية هذه الفكرة يكون الإله مجرد خادم للإنسان، والدين عبارة عن ظاهرة نفعية فقط، وقد لعب الإعلام الديني المتمثل في التلفانجيليست "المبشر الإنجيلي التلفزي" دوراً في ترويج هذه التصورات وانتشارها داخل أمريكا وخارجها. يذكر الكاتب أن هذا التوجه الإنجيلي يحوي العديد من الجماعات والتي يجمعها طابع خُلقي بالأساس وتبقى مكونات بنائها مسيحية، وترى أن السياسة هي من الأدوات التي تستطيع أن تحقق بها أهدافها الدينية وما يحويه الكتاب المقدس من أفكار وتوجيهات، فليس هدفها السيطرة على السياسة ولكن تطويعها بما يخدم مصالحها.
سعى الإنجيليون الجدد إلى خوض غمار السياسة بعد التعفف عنها في فترة السبيعينات واتخاذهم وضعية الهجوم بدل وضعية الدفاع كما يعبرون عنها بمصطلح الحملات الصليبية في العصر الحديث، ويتكون هذا التيار الإنجيلي بنسبة 60 بالمائة من النساء مقابل الرجال، كما أن 90 بالمائة ممن يشكلون هذا التيار هم من البيض في الولايات المتحدة، ويذكر الكاتب أن صامويل هانتغنتون "يعد البروتستانتية عاملا حاسما في التطور وعنصرا من عناصر القوة الأمريكية"، وقد كان لتطور الجماعات البروتستانتية في أمريكا اللاتينية أن أصبح رجالات الكنيسة الكاثوليكية يوجهون الإدانات لها، وقد مثلت موجة التبشير البروتستانتية البنتكوستالية العارمة التي انطلقت أعقاب انعقاد مؤتمر بنما 1916م، البداية الشكلية لانطلاق الحركة الإنجيلية في أمريكا الجنوبية، وفي الحديث عن عوامل زحف الإنجيليين على أمريكا اللاتينية تذكر أليساندرا شاتيني "إن فرضية إضفاء الطابع البروتستانتي على المنطقة لا تنبع من نظرية المؤامرة، بل تستند إلى مخططات مضبوطة مثل تقرير نيلسون روكفيلر (1969)، ووثائق سانت فيه (نيومكسيكو) الأولى والثانية الصادرة عن وكالة الاستخبارات الأمريكية"، واستعمل هذا التيار أسلوباً جديداً في جلب الناس عن طريق إغراء جديد يعتمد المُقايضة بالخدمة، وقد جاء هذا التحول من "خروج معادلات الخطاب الديني من الحسابات الأخروية الصرفة إلى معانقة الحسابات الدنيوية المتأثرة بالواقع المتحرك".
يرى الكاتب أنَّ العقود الثلاثة الأخيرة تميزت بتسييس الحركات الإنجيلية في أمريكا اللاتينية، بعد أن مثلت فترة السبيعينيات فترة بداية الدخول في الالتزام السياسي، وفي أواخر ثمانينيات القرن الماضي زاد التنافس الديني عندما صارت البنتكوستالية أكثر تناغما مع الليبرالية الدينية، ويذكر الكاتب أن هدف الحركة الإنجيلية في كولومبيا من خلال تشكيلها لحزبها الديني هو الحصول على امتيازات تضاهي امتيازات الكاثوليك، وقد صار من المميز في نشاط الحركة الإنجيلية الجديدة تحولها من موقع الانعزال إلى كسب الغنائم السياسية من خلال رأسمال الديني. ويتصف هذا التوجه كما يرى الكاتب بثلاث صفات: أولها "التكتل بما يشبه الحزب المتكون من "إخوة الإيمان"، شعاره "الأخ ينتخب أخاه"، والثانية: تشكيل جبهة إنجيلية تضم أناسًا وحركات لا ينضوي أصحابها في الحركات الإنجيلية، والنهاية التحالف الموسع مع حركات وقادة غير إنجيليين لغرض يهدف إلى تحوير موازين القوى".
وأرى أنه على المسلمين فهم الحركة الإنجيلية لاستخلاص الأدوات الجديدة وتفعيلها لتغيير الخطاب الديني بما يمنحهم إقبالاً أكثر من الناس ويتناسب مع واقعهم المعيشي، وتفعيل دور المساجد لتشمل جوانب اجتماعية أكبر دون الاكتفاء بها في الشعائر الدينية وأن الانخراط في النظم السياسة هو بمقدار ما يخدم الإنسان لتحقيق منفعته الدينية والدنيوية على حد سواء.
