الحوار في الخطاب الصوفي.. أسلوب للمقاومة والبقاء

قيس الجهضمي

شغل التصوف الإسلامي أذهانَ الباحثين في مختلف أنحاء العالم، ولم تتوقف الدراسات والبحوث فيه أيضا في شتى الجامعات؛ وذلك في السعي لكشف غموض خطابه ومحاولة فهم أسراره؛ لذا يسعى الكاتب خالد التوزاني في مقالته، والتي بعنوان "الخطاب الصوفي والتفاهم: من الحصار إلى الحوار"، والمنشورة في مجلة "التفاهم"، إلى بيان ملامح هذا الخطاب، وما تعرض له من ممارسات كانت سياسية أو دينية جعلت من أتباعه يتخذون مناهج وأساليب معينة للحفاظ على بنية الخطاب وأتباع التصوف وممارساته الشعائرية.

يذكر الكاتب أن التاريخ الإسلامي العربي يحمل الكثير من القصص التي قامت فيها محاكمات لكثير من أصحاب التصوف ومشائخه الكبار، فعلى سبيل المثال: قتل عبدالسلام بن مشيش وهو من كبار أقطاب الصوفية في تيار الشاذلية المعروف بوسطيته واعتداله بسبب كيد الحاقدين عليه عام 625م، وأما في الشرق فقد قطع رأس الحلاج وأحرق بالنار وألقي برماده من أعلى المئذنة ليكون عبرة لغيرة، وليرجع الكثيرون من أهل التصوف عن آرائهم؛ لذلك لجأ الصوفية إلى عقد جلساتهم وحلقاتهم وحضراتهم بشكل سري خوفا من التنكيل بهم والتضييق عليهم، ويذكر الكاتب أن سبب هذا الحصار عليهم والمنع هو ما كانوا يبوحون به من المواجيد والأشواق والتي يطلق عليها مصطلح الشطح، وفي الشطح "يصعب تفسير تلك العبارات أو حملها على الظاهر وإلا عدت هلوسة وكفرا صريحا"، حيث يقول عبدالسلام المرغيني: "ومن الحق الذي لا مراء فيه أن فيها فِعلا ما يقلق وأن بعض شطحهم ينبغي أن يسكتوا عنه، وأن يظهروا شجاعة أكبر في تملك ألسنتهم إذا لم يستطيعوا امتلاك مشاعرهم".

ويرى الكاتب بما أن شطحات الصوفية لا يقبلها عقل كثير من الناس فعلى الدارس لها دراسة علمية وموضوعية ومن يحاول فهمها أن ينطلق من نسقها الصوفي لأنها تختزن جانبا كبيرا من لاوعي المتصوف، ولإكمال عملية هذه الدراسة لا بد أن يستحضر جملة من الحقول المعرفية التي تخص الظواهر الغريبة، ويؤكد أنه على الباحث أن تكون غايته هي الفهم والتفسير لا إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف منها.

وقد عانى الخطاب الصوفي عبر التاريخ من الإقصاء الممنهج الذي شمل كل مظاهره وممارساته، وكثر أشباه الصوفية الملتصقين به مما جعل الكثير يضعونه في دوائر الشعوذة والطلاسم، لكن أهل التصوف الحق قاوموا هذه الأشياء بالكتابة والتأليف والتوضيح للناس والتحذير ممن ينسبون أنفسهم للتصوف من غير وجه حق، فيذكر الكاتب منهم الشيخ أحمد زروق في كتابه: "عدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان الطريق القصد وذكر حوادث الوقت" وفيه يؤكد على ضرورة الالتزام بالكتاب والسنة ومراجعة ما استحدثه القوم من ممارسات من خلالهما، ومنهم أيضا أبو العباس أحمد السجلماسي في كتابه: "منجنيق الصخور في الرد على أهل الفجور"، لكنه حينما طغت المظاهر السلبية في التصوف جعلت من الناس والمجتمع ينظرون إليه نظرة إزدراء وتحقير، بل امتدت هذه النظرة أيضا إلى العديد من الباحثين والدارسين لظاهرة التصوف، حتى أساء بعض الباحثين على دراسته حيث عمم نتائجه على كل الخطاب الصوفي ولم يفرق فيه بين الاتجاه الحق والاتجاه الآخر، ويحصل أن تكون "الأمثلة التي يسوقها الباحث لتوضيح أفكاره هي نتاج عملية غير بريئة، هدفها تقوية الادعاء الأساسي الذي يقف خلف أفكاره".

ويذكر الكاتب أنه بالعودة إلى المصادر التاريخية يظهر أن التصوف كان مرتبطا بالكتاب والسنة منذ نشأته، لكن بسبب مرور الزمن التصقت بالتصوف الكثير من الأشياء الدخيلة عليه ولم يقبلها أهل التصوف الحق لأنها أساءت إليه، فصنع أهل التصوف خطابهم الخاص الذي تميز فيه الحوار بين البوح والكتم، ويكون فيه كتم الأسرار والعزلة عن الخلق أحيانا، والبوح عن المواجيد والأفكار والمواجيد التي تجعل من التجربة الصوفية سائرة في طريقها إلى الله، وقد تطلب استعمال البوح من الصوفية في حوارهم لأجل الاندماج في المجتمع ومداخلة الناس والتفاعل معهم ومن هذا الأمر تتعمق التجربة وتتوسع دائرة التفاهم من خلال دائرة التأُثر والتأثير، ويذكر الكتاب أنه بوح الصوفية مقصده هو نفع الغير والأخذ بأيديهم للوصول إلى الله.

إنَّ العديد من الأساليب التي نهجها أهل التصوف في التحاور مع الآخرين ودعوتهم واستعمالهم الكثير من الأفكار التي كانت تحمل في طياتها الغرابة والتحيير وهي في غايتها في كسر أفق ذهن المتلقي، حيث يتحول الحديث لصمت والوضوح لخفاء، إذ يسعون من خلال هذا الأسلوب للوصول لذهنية المتلقي بالتلميح لا بالتصريح في حوارهم، وهم بهذا الأسلوب لا تكون الغاية الحقيقية التفهيم والتبليغ بل إدارة هذه المعارف والأسرار بين أهل الخاصة ولا يكون البوح بها إلا بعد صيانتها من الدخول في الأغيار، لذلك يؤكد الكاتب على فكرة أن الوضوح في التجربة الصوفية "ليس هدفا ولا غاية بل الهدف والغاية هي حفز المتلقي على الدخول في المغامر"، ويؤكد أن انشغال الصوفية في هذا الأمر هو لأجل تحبيب السلوك للغير، وحثه على دخول التجربة.

كان الكلام بالإشارة هو منهج الصوفية رغم إمكان بيان المعنى، لكنهم كانوا يقاومون بهذا المنهج اعتراضات القوم التي كانت عن طريق إقامتهم المحاكمات ومحاولة إقصائهم بسبب تحميلهم الخطاب على غير ما يحمله من معنى، فكان العنف المادي واللغوي أخطر أسلحة الفقهاء، ومن ورائهم السلطة السياسية أحيانا، كما أن من أسباب استعمال هذا الأسلوب هو ما يروى عن الصوفية أن "السر الإلهي لن يكون سرا إذا ذاع وانتشر"، ويذكر الكاتب أنه علينا التمييز في التجربة الصوفية بين المعروف عن طريق السر والإلهام  وبين المسموح بالتعبير عنه عن طريق البوح ولمن يكون ذلك، فعدم التوازن في الأمرين هو ما عرّض الصوفية للمحاكمات والقتل والحصار.

... إنَّ الخطاب الصوفي هو خطاب للنخبة في الأصل، ويترفع عما ينشغل به الناس من العامة من أمور الدنيا؛ لذا فهو ليس مفتوحا للجميع، كما أن البوح عن بعض مفاهيمه لغير أهله قد يؤدي لفتح مشاكل في التأويل، وكذلك منها لبعض الخصومات السياسية. وخلاصة الأمر أنَّ الممارسات التي تعرض لها التصوف سواء كانت عن طريق المحاصرة أو المحاكمات أدت إلى إبداع آليات تخصه في المقاومة والصمود، منها الموازنة بين الكتم والبوح في الأفكار والقضايا حتى الوصول فيها لمرحلة استعمالها في الدعوة والحوار للآخر وتشجعيه لدخول هذه التجربة. وأرى أن التجربة الصوفية في ذاتها هي في سياق طريق داخلي روحي للوصول إلى الله؛ فاستعمال المنطق والعقل فيها هو في اتجاه غير اتجاهها وتحميلها على غير ما تحمل، وعلينا أن نستعمل نفس المنهجية الصوفية في تعاملنا مع قضايانا أيضا فتكون الموازنة بين الكتم والبوح فيها بما يحقق الفائدة لكل الناس عامتهم وخاصتهم.

أخبار ذات صلة