أم كلثوم الفارسية
يتناول الأكاديمي المصري -الأمين عبد الحميد أبو سعدة- في مقاله المعنون "الدول الإسلامية والدول الأخرى في العصور الوسطى" المنشور في مجلة التفاهم، العلاقات الإسلامية المسيحية في ضوء المتغيرات الدّولية، والأبعاد التّاريخية والاجتماعية والثقافية التي سادت إبّان القرن الهجريّ الأول، وما تلاه من مُتغيرات تاريخية وفكرية في القرون اللاحقة؛ فنشأة الإسلام في بلاد العرب لم تكن أمراً عبثياً، بل جاءت لملء الفراغ الدّيني الذي سبَّبه توسُّع الشَّتات في الأفكار والمذاهب الدّينية من جانب، وانتشار الوثنية في البلاد العربية من جانب آخر. كما أنّ القرآن الكريم هو أول كتاب سماوي يتناول الأديان بالشّرح، ويُقدِّس كتُبها، ويُعد الإقرار بها شرطاً للإيمان في الإسلام، ويخصُّ المسيحيين بالمودّة والقربى ويدعو إلى التقارب مع معتنقيها، باعتبارهم في ذمة الله ورسوله.
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ العلاقة بين الإسلام والمسيحية كانت معقدة على مر القرون، فقد سادت ألفة وتبادل إنساني وحضاري في أحيان، ومنازعات وعداوات كثيرة في أحيان أخرى بينهما؛ حيث كان المسيحيون أول من حمى بعض المُسلمين الأوائل في هجرتهم الأولى إلى الحبشة هرباً من بطش قريش، فحماهم النجاشي ملك الحبشة ونصرهم، ولبثوا عنده سبع سنين، وعندما مات النجاشي قام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأداء صلاة الغائب عليه في المدينة.
وفقًا للشريعة الإسلامية فإنَّ المسيحيين هم أقرب الناس مودة للمسلمين، وعزى القرآن ذلك إلى تعبدهم وعدم استكبارهم حيث ورد في القرآن: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ومع ذلك ورد في القرآن أن بعضا منهم متعصبون لدينهم وكارهون للمسلمين كما ورد في هذه الآية: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
فقد وضع القرآن لبنات العلاقة الإيجابية مع غير المسلمين، وخصَّ المسيحيين بالمودَّة والقربى، وزادت أقوالُ وممارسات الرّسول في نجران وغيرها من وشائج العلاقة مع المسيحيين، وكذلك مسالكُ الخلفاء الرّاشدين السّمحة، فقد رفع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الجزية عن قبيلة تغْلب العربية، وتفاعل الإمام علي (رضي الله عنه) مع المسيحيين في الكوفة، ورعى فقراءهم. وقد حفّزت هذه الممارسات ومثيلاتها النّسيج الاجتماعيّ الواحد، سُدى ولُحْمَةً، على التآزر والتعاضد والتمازج في ظلّ الحضارة الواحدة والدّولة الواحدة المتَّشحة بالإسلام. وكان خالد بن يزيد الشَّخصية الأولى التي عملت بمشورة علماء السِّريان، فأقدم على الاشتغال بالكيمياء، والعناية بإخراج كتب القدماء فيها، كما عاصر الحقبة الأموية عددٌ كبير من العلماء ورجال الدّين النّصارى من نساطرة ويعَاقبَة، كانوا في نشاط دائم لنقل التُّراث اليوناني إلى لغتهم السّريانية، لاسيما في مجال الفلسفة والمنطق في مقدّمهم: ساويرس سنجت (ت48هـ)، وحنّا نيشوع (ت82هـ)، ويعقوب الرّهاوي (ت90هـ)، ويوحنا الدّمشقي (ت126هـ) الذي كان والده أحد موظّفي الدولة الأموية، وشغل يوحنا منصب كبير مستشاري هشام بن عبد الملك، ثم اعتزل واعتكف في دير القديس سابا، الأمر الذي خلق حالة من التّعايش السِّلمي بين الجانبين مما انعكس إيجاباً على الأدوار الحضارية التي لعبها المسيحيون في الحضارة الإسلامية.
إنَّ النَّسيج الاجتماعي هذا بلا شك كان محفزا على التّفاعل والانسجام؛ حيث نجد مشاركة أعضائه في الاحتفالات والمناسبات الدِّينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية. وسبب ذلك التّحفيز يعود إلى منظومة الحقوق التي شملت غير المسلمين حيث تتجسّد فيها روح الانتماء والمواطنة، فلم يستشعروا حالةَ اغتراب مع السُّلطة والمجتمع، إذ لم تقم العلاقة على عقود الأمان والحماية فحسب، وإنما لم يحظر الإسلام أي عمل يدوي أو فكري على المسيحيين، ولم يكن العيش المشترك خالياً من أسس الاحتواء، أو الانضواء تحت ظلال دين الدّولة، إلا أنه خالٍ من القهر الدِّيني والإكراه، وهو ما عبّر عنه خريسو ستموس بالقول: «إنَّ الدّولة العربية كانت تحمل طابعاً إلهياً دينياً، وإنّ العرب بمقتضى كتابهم المقدّس، القرآن، حفظت حقوق أهل الذِّمَّة، أو أهل الكتاب، وبخاصَّة المسيحيين، وكان لهم أن يتمتّعوا بحقوق الحياة، وتُركتْ لهم حريتهم الدّينية، وحقوق إدارة جماعاتهم مع السُّلطة الرُّوحية ".
ولا تزال العلاقات بين الجانبين في تطور مستمر ؛ حيث برز نوع من الاعتراف والتقدير المتبادل بين المسيحيين والمسلمين ، وأخذت السفارات والرسل تتوافد من الجانبين لمناقشة شؤون العلاقات بينهما من حروب، وهدن، وتبادل للأسرى وغيرها. ومما لا يخفى على أحد الدور المهم الذي لعبه المسيحيون في ظل الدولة الإسلامية؛ حيث برزت مساهمة القبائل المسيحية إبان الفتوحات العربية، وفي تثبيت أركان الحكم، وبقيت مجتمعات مسيحية على دينها مثل أقباط مصر، وموارنة لبنان، وتغالبة الجزيرة. وكان مسيحيو الشام من القبائل التغلبية يشكلون سندًا للأمويين في الجيش، وفي الأسطول اعتمدت الدولة الإسلامية على المسيحيين في إدارة الدولة ودواوينها؛ فقد كان للمسيحيين العرب دور بارز في العصر الأموي، في إنشاء الدواوين، فاستفاد الأمويون والعباسيون منهم في تعريب الدواوين والإدارة وأبقوهم على رأس وظائفهم. وكذلك فعل الفاطميون في مصر، ولم يقتصر الأمر على موظفي الإدارة، بل تعداه إلى الوظائف الكبيرة في الدولة، فقد عمل السريان والنساطرة خلال العصر العباسي في الترجمة والعلوم والفلك والطب فاعتمد عليهم الخلفاء.
وهكذا أثبت المسلمون أنهم للسلم أميل، وأن لهم روحا عملية تتجاوز حدود الكراهية والبغض التي غلفت علاقات البعض بهم، كما أن الحضارة الإسلامية أثبتت مرونتها وقدرتها على استيعاب من سبقها، وبث الروح فيمن تلاها ومن جاورها من حضارات أخرى. إن العلاقات التجارية، أو بلغة عصرنا، المصالح الاقتصادية تلعب دوراً مهماً في العلاقات الدولية، وتشكل في معظم الوقت أولوية تتخطى غالبا ما عداها.
