ديموقراطية مُعرّبة

عاطفة المسكري

"إنّ سيطرة الغرب بدأت حين تخلّوا عن الإرث البابوى والديني" هذه كانت إجابة إحدى أساتذة العلوم الاجتماعية فى إحدى جامعات بيروت على سؤال أسباب تقدم العالم الغربي، مما يشير إلى الإيمان التام بأنّ تقدم الغرب يعود لأسباب عقائدية حيث أنهم أفلتوا حبال الدين بعيدا فكان لهم التحرر والتقدم! لا نبالغ إن قلنا إن هذا النوع من التفكير ينطبق على الكثير من مثقفي العالم العربي. يطرح هذا الموضوع الكاتب محمود حداد وهو أستاذ التاريخ في جامعة البلمند في لبنان. حيث يشير في مقالته التي جاءت بعنوان "الغرب وأنموذجه باعتباره حاجزاً أمام النهضة العربية" إلا أنّ الكاتب أو المثقف العربي يعتقد أنّ من ضمن الأسباب الرئيسية لتقدم الغرب هي قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم.

 لكن وقبل أن نلقي اللوم على تبنيهم مثل هذه الأفكار أعتقد أنّه من المنصف أن نطِّلع على إحدى النماذج الغربية المتقدمة. فرنسا مثلا تعد من الدول المتقدمة اقتصاديا واجتماعيًا على الرغم من كونها مرت بتجارب قاسية في القرون السابقة حتى آلت إلى ما هي عليه الآن. تعدُ الثورة الفرنسية أبرز عامل مكون للكيان الفرنسي بالشكل الذي هو عليه اليوم، ومن المتعارف أنّ الدين كان عنصرا حاضرا في قضية الثورة حيث تمّ اجتثاثه وإبعاده عن الصورة السياسية للدولة. وتلتها عدة تغييرات ابتداءً من نظام الحكم الملكي المطلق الذي كان يعد أحد الأنظمة الاستبدادية، مرورا بالحالة الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية المتمثلة في الانقسامات الطبقية. إنّ هذا الفصل الديني-السياسي هو جانب تعترف به فرنسا نفسها كعامل مساهم في خلق التقدم الفرنسي والأوروبي بشكل عام.

 ومن هذا المنطلق نجد فئة لا بأس بها تؤمن في ذاتها أنّ الدين عائق أمام التطور والتقدم ولا تتأنى أن تذكر ذلك بهمس ولمز في المجالس المغلقة. وفي جانب آخر نجد الفئة التي تنادي باقتباس النماذج الغربية جاهزة مع مراعاة الحفاظ على الهوية العربية المسلمة؛ إلا أنّه من الصعب جدا محاكاة نموذج جاهز وتوقع الحصول على نفس النتيجة غالبا، بل ومن المتوقع الخروج بنتائج عكسية؛ فالنماذج الغربية المتقدمة مرت بمراحل مثل ما سبق وأشرنا لها في السابق إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن. أضف إلى ذلك مسألة الخلفية العقائدية المختلفة التي جاؤوا منها. تختلف الثقافة الغربية والأنماط الاجتماعية كثيرا إذا ما جئنا نقارنها بأنماط المنطقة العربية، ويختلف التاريخ كذلك. معنى ذلك أنّ تجربة نقل الأنموذج الغربي المتقدم إلى فئة لم تختبرْ أو تعشْ مراحل هذا التغيير وصولا إلى التقدم خطوة بخطوة تصبح دون جدوى حيث يتم فيها تسطيح كل المراحل ومحاولة اختصارها فتولد لدينا تجربة مشوهة ناقصة لا تحتوي على أسس ثابتة تعيننا على البدء من جديد نحو خطى ثابتة، ولذلك نجدنا نميلُ أمام أبسط التحديات التي تعصف بنا وتختبر ثباتنا وربما هذا ما حدث بعد أحداث ثورات الربيع العربي في العديد من البلدان.

هذه الصورة الناقصة عن السلسلة المؤدية للتقدم والتي ترسّخت في بال العديد من الأشخاص ولدت لديهم فهما خاطئا للأمر وبالتالي محاولة محاكاة نتيجتها معروفة غالبا.

 بجانب ذلك نجد أنّ الجانب الغربي كثيرا ما وجّه أصابع الاتهامات نحو الأنظمة الثيوقراطية والدين كسبب أو عائق للتقدم مما أدى إلى مناداة الكثير من المثقفين العرب للعلمانية واختزال الدين ليقتصر على حالات ورغبات فردية مع إعطائهم الحرية التامة في كل ما يرتبط بها وفصلها فصلا تاما عن الأمور السياسية. إذا ما جئنا نحاول تطبيق ذلك على منطقتنا العربية قد لا يصبح الأمر سهلا؛ لأنّ التكوين العربي السياسي لطالما كان مُتصلا بالدين بل وإن الأحكام لازالت تؤخذ من الشريعة الإسلامية في تقنين بعض الأمور المتعلقة بالدولة. فلا يمكن تطبيق العلمانية بهذه الطريقة المتطرفة حيث إنّها لا تتناسب مع تكوين الدويلات المسلمة والواقع السياسي العربي والدعوة إليها أشبه بـ" التنوير الزائف". يذكر الكاتب الأستاذ محمود حداد في مقالته أحد أعلام النهضة العلمانية العربية الذي كان ينادي بها قاصدا الدولة العثمانية، على الرغم من أنها لم تكن دولة دينية في كافة تفاصيلها إلا أنها كانت تطبق الشريعة على أبناء الدولة. فإذا كنا نقبل بأوروبا كنموذج فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار مسألة كونها لم تقلص من أهمية بابوات الفاتيكان اليوم فلا زالوا حاضرين في المشاهد والمناسبات المهمة، وهذا ما يشير إليه الكاتب في مقالته حيث إننا إن كنا نتقبل النموذج الغربي بما فيه ويقصد هنا رموزها الدينية الحاضرة فلماذا نرفض وجود صورة "الشيخ" حاضرة في عالمنا العربي والإسلامي؟ هذا السؤال يجعلنا نعيد النظر في مسألة المحاكاة التامة لأي نموذج ناجح، فالأمر لا يقتصر على مسألة التقدم الحضاري أو التطور ولا يقتصر على العالم الشرقي أو الغربي فقط، بل تعد هذه النقطة مهمة على مستوى الحالات الفردية وأنماط التفكير والعيش لدى الفرد أيضا.

فعندما يصبح الفرد واعيا مدركا لأهمية تقبله لفكرة فردانيته واختلافه عن الآخرين وأنّه مهما رأى نماذج ناجحة لا يستطيع استنساخها ومن ثم توقع الحصول على نفس النتيجة قد يتوصل لنتيجة أكثر واقعية وأقرب للتغير المراد. ومن ثم سيتجلى ذلك على مستوى مجموعات أكبر في المجتمع ليصبح الأمر مسلما به كمبدأ واضح يعينهم على التغيير بطرق أكثر ذكاء. إن التوازن يعد مهما في عصر تشوشت فيه الأهداف والغايات والطرق. إن كنا نعتقد أن الديموقراطية التي حصلت بسبب الثورة الفرنسية في الغرب سببا للتقدم فلا بد أن نعلم أننا نحتاج إلى ديموقراطية مُخَصَّصةcustomized democracy  تليق بنا كعرب ومسلمين. فمعطيات واقعنا تختلف جذرياَ عن معطيات العالم الغربي وظروفه. ولهذا السبب الديموقراطية الغربية لا تليق بنا ولا نحن نليق بها وهذا لا يدل بأي شكل من الأشكال على استنقاص لذواتنا أو مقارنتها بالطرف الآخر، إنّما محاولة لفهم ذواتنا في سياقات أوسع وأقل اشتراطا.

أخبار ذات صلة