أسعد الحراصي
كثيرة هي الاجتهادات التي تبين لنا العلاقة بين اللغة العربية والعروبة ومن جملتها نتناول ما أورده محمد الأرنوط أستاذ الدراسات الإسلامية في مقالته (ثلاثة اجتهادات تاريخية في فهم العلاقة بين اللغة العربية والعروبة الجديدة، ابن تيمية، ومحمد الشافعي، وابن باديس) التي أوضح لنا من خلالها طبيعة العلاقة بين اللغة العربية والعروبة في ضوء ما عرضه من اجتهادات.
يعود انشغال الفقهاء بمسألة العلاقة بين اللغة العربية والعروبة إلى القرن الثاني للهجرة، أي في الوقت الذي بدأ فيه جمع الأحاديث النبوية سواء الصحيحة أو الموضوعة بما فيها من الأحاديث المُتعلقة بموضوع العلاقة بين اللغة والعرب وذلك وفقا لما كشف عنه د. رضوان السيّد في كتابه "مفاهيم الجماعات في الإسلام" والذي نقل لنا بدوره جملة الإمام الشافعي في (الرسالة) التي تطرق فيها إلى الصلة الوثيقة بين القرآن واللغة العربية. "وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله" فمن الواضح أنّ الشافعي يعد قبول اللغة العربية دخولا في الصلة الجديدة أي أنه يعد اتخاذ العربية لسانا يجعل من المرء عربيا.
وفي إطار الحديث نفسه يستعرض د. السيد قصة من كتاب التنوخي (الفرج بعد الشدة) عن الأسير العربي الذي أسر في بلاد الروم خلال عهد معاوية بن أبي سفيان وأطلق سراحه خلال عهد عبد الملك بن مروان حيث أظهرت وجود رأي مبكر يقول: إنّ "العلم باللسان ينقل الإنسان من جنسه إلى جنس من حفظ لسانه" ويصل السيد إلى أنّها موضوعة لحرمان الموالي المقبلين على الإسلام والعربية من شرف النسبة واستحقاقاتها. ولكي نفهم القضيّة بحذافيرها ينقلنا الكاتب الأرنوط إلى اجتهاد فقيه مسلم وهو ابن تيمية الذي يوصف بكونه ملهما للسلفيين والتكفيريين لما أصدره من فتاوى. ويرى أنّه من المفارقة أنّ ما كتبه ابن تيمية عن العروبة الجديدة جاء في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" الذي ألهم السلفيين والتكفيريين في تفكيرهم وممارستهم وفي المقابل لم يلهم العروبيين والقومين المعاصرين مع أهمية ما كتبه بالنسبة لهم.
لقد كان ابن تيمية منحازا للعرب فهو ينطلق من أنّ "الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أنّ جنس العرب أفضل من جنس العجم (عبرانيهم، وسريانهم، ورومهم، وفرسهم وغيرهم) ويستند في رأيه من الأحاديث النبوية "كحب العرب إيمان وبغضهم نفاق" وغيرها من الأحاديث التي لم تسلم حسب قول الكاتب من التشكيك وكذلك يرى ابن تيمية أنّ ما ذهبت إليه الشعوبية "الذين لا يحبون العرب ولا يُقرون بفضلهم" أنّه بدعة. ومع هذا الانحياز للعرب نجد أنّ ابن تيمية توسع في مفهوم العرب حيث "يجمع فيه الاثنين: اللغة/الثقافة، والمكانية بعد التطورات التي طرأت على المنطقة نتيجة لانتشار الإسلام والفتوحات الجديدة. ويقر أنّ العرب في الأصل إنما يشتملون على ثلاث فئات وهي كالتالي:
1) من كان لسانهم العربية.
2) من كان من أولاد العربية.
3) من سكن أرض العرب.
والجدير بالذكر أنّ لفظ أرض العرب يقتصر على الجزيرة العربية دون غيرها من البلدان والأمصار بيد أنّ الفتوحات الإسلامية على أراضي فارس والروم قسمت البلاد إلى قسمين هما:
- من غلب على أهله لسان العرب وهي أغلب مساكن الشام، والعراق ومصر، والأندلس.
- أمّا العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم فهذه في بلاد الترك، وخراسان، وأرمينية، وأذربيجان ونحو ذلك.
وابن تيمية يقسم العرب بعد الفتوحات على ثلاثة أقسام من السكان:
ما هو عربي ابتداء، وما هو عربي انتقالا، وما هو عجمي وهو الذي يربطها باللغة:
- قوم يتكلمون بالعربية لفظاً ونغمة.
- قوم يتكلمون بها لفظاً لا نغمة وهم المستعربون.
- قوم لا يتكلمون بها إلا قليلاً.
ويبقى أن نشير هنا إلى أنّ ابن تيمية كتب ما كتبه في ظل الدولة المملوكية الجديدة التي قامت شرعية حكامها الأتراك والشراكسة على الإسلام وليس على العروبة. بعد انتهاء الدولة المملوكية وقدوم الدولة العثمانية أثيرت من جديد مسألة اللغة العربية والصلة التي تربطها بين الرعية المسلمة (المستعربة) نتيجة الفتوحات الإسلامية التي أدت لانتشار الإسلام واللغة العربية إلى بلدان شرق آسيا الصغرى وجنوب شرق أوربا.
حيث برز في هذه الفترة من الزمن عالم جديد ألا وهو محمد الشافعي الذي اجتهد بدوره في فهم الصلة بين لغة القرآن/ الإسلام والعروبة، وهذا الاجتهاد نحى به لتأليف أول رسالة من نوعها في هذا المجال ألا وهي "رسالةٌ في أن كلّ مسلم عربي" ويصرح فيها أنّه "لا يجب على أحد من المسلمين أن يتعلم من الألسن غير العربية" وبناء على ذلك يرى الشافعي أنّ "كل من تلبس بالإسلام وجب عليه الإتيان بالشهادتين ومعرفة ما يلزمه من الصوم والصلاة والحج والزكاة وغير ذلك من الأحكام ... ولا سبيل إلى معرفة شيء من ذلك إلا بعد معرفة ما يحتاج إليه من اللسان الذي نزل به القرآن". وبعد هذا التصريح الواضح يصل الشافعي بنا إلى نتيجة اجتهاده التي يقر بها أنّه "إذا بلغ من تلبس بالإسلام هذه المرتبة.. لا جرم يحكم له بأنّه من أهل الكتاب يوصف بما يوصف به الكتاب" أي أنّه صار عربيا لأنّه التصق بالعرب ودخل معهم في النسب ولو لم يكن في حقيقة أصله منهم.
وبعد أن اطلعنا على اجتهاد العالم محمد الشافعي نستعرض اجتهادا آخر أتى به الكاتب في مقالته ألا وهو اجتهاد الإمام عبد الحميد بن باديس الذي ينظر إليه بأنّه الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، والذي كان من العلماء الذين اهتموا بإظهار الصلة بين اللغة والعروبة كونه يمثل الحالة التي يتحدث عنها فهو ينحدر من البربر الذين دخلوا في الإسلام واختاروا اللغة العربية لغة لهم. ويرى ابن باديس أنّ الأمة العربية تجمع فيها ما هو إثني/ سلالي وما هو لغوي/ ثقافي؛ وذلك حسب ما كتبه في مقال نشره عام 1963م فهو يقول "تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة؛ وإنّما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد. ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان، ثم وضعت شامياً وجزائرياً -مثلا- ينطقان باللسان العربي، ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب.. لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم".
بعد ما تقدم من عرض لاجتهادات العلماء الثلاثة في بيان العلاقة أو الصلة بين اللغة العربية والعروبة الجديدة فإنّه يتضح أنّ مفهوم العروبة مفهوم يخضع لتغيرات الزمن على الجغرافيا والظروف الاجتماعية فليس من الشرط أن تكون اللغة العربية دليلا على وجود أمة عربية واحدة متحدة فعصر الجاهلية كانت تحكمه لغة واحدة ولكنهم كانوا غير متحدين فيما بينهم ولعل من الواجب أن يعاد النظر في الصلة بين اللغة العربية والعروبة الجديدة بناء على معطيات العصر الحديث مع متطلباته والاستفادة من الفهم الماضي لهذه الصلة.
