أسعد الحراصي
إلى أين تتجه العلمانية في العصر الحديث وما هو موقع الدين منها؟ وهل العلمانية اليوم أصبحت واقعا لا مناص منه في بلاد الغرب؟ تساؤلات تقودنا لكتاب الفيلسوف الكندي تشارليز تايور "عصر علماني" الذي يدور محور حديثه حول قصة العلمانية عند الغرب. وقد تكفل أستاذ التعليم العالي في الفلسفة المعاصرة فتحي المسكيني بتتبع أفكار تايلور ونشر ما خلص إليه بمجلة التفاهم في مقاله المعنون بـ"الزمن العلماني "وعودة الدين نموذج تشارلز تايلور.
يفتتح الكاتب مقالته بتساؤلين اثنين بمثابة مدخل تمهيدي يلج بهما للحديث عن العلمانية وهما من نسج تشارلز تايلور أولهما ماذا يعني أننا نعيش في عصر علماني؟ وثانيهما هل الإنسانية تغير قبلتها من جديد؟ ويترك تايلور لنا الباب على مصراعيه للبحث عن الإجابة لينقلنا بدوره لعرض رأيه في الهوية الحديثة عند الغرب: هوية الأنوية، الفردانية، الكونية، الصورية، ذات النزعة العلمية، الوضعية، المستنيرة، الملحدة أو على الأقل المحايدة دينيا. حيث يعتبرأنها تسيئ إلى فهم جانب خطير مما حدث باسم الروح الحديثة وهو مصير الدين الذي كان يمثل كما يرى العنوان الأخلاقي الأكبر للإنسانية "قبل الحداثة " ولعل السبب في ذلك كون الحداثة في الغرب لا تكترث بالدين أصلا وإنما تنسلخ منه في الكثير من الأحيان وما وقع مع مجيء الحداثة ليس فقط نزع الطابع السحري "الدين" عن العالم بل خلق ذات أخرى قادرة على أن تكون سيدة على الطبيعة ومن ثم نزع الدين أو ما يسميه ب "أنا العازلة " التي هي نتاج الحداثة.
وبما أننا في خضم الحديث عن العلمانية وقبل الشروع في مناقشة أفكار تايلور يجب أن نتعرف على معنى كلمة علماني فأصل كلمة علمانية هي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (SECULARISM ( والترجمة الصحيحة هي اللادينية أو الدنيوي وما يدعم هذه الترجمة هو ما جاء في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULARISM ( "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها" وكذلك يؤكد هذه الترجمة ما ورد في معجم أكسفورد شرحا لكلمة (SECULARISM ( "ليس دينيا ولا روحيا" وأما الاسم العربي "علمانية " فليس لها علاقة بالعلم لا من قريب ولا من بعيد وجعل كلمة العلمانية كمصطلح يوضح الفكرة، فيه تضليل وتعمية للناس. في المقابل يستخدم تايلور كلمة "قرن" أو "عصر" في ترجمته للعلمانية بينما يضع الكاتب فتحي المسكيني مصطلحا يراه مرادفا مناسبا لكلمة "العلمانية" المسيحية وهي "الدنيوي" أي الانخراط في زمن دنيوي.
يقدم بعدها الكاتب في إيضاح تساؤل تايلور ماذا يعني أننا نعيش في عصر علماني بدون إسهاب يذكر. فهو يفهم من صيغة السؤال بأن تايلور يتحدث باسم "نحن" المتمثلة في الغرب ولا يستبعد الكاتب فتحي المسكيني أن تكون نحن تعني أيضًا الإنسانية الحالية بما فيها البلدان الإسلامية وذلك لما يقرؤه من قبول لفكرة العلمانية والمطالبة بجعل الدول الإسلامية علمانية بين الفينة والأخرى.
ولكي نتمكن من معرفة كنه العلمانية يعرض الكاتب المعاني الثلاثة التي ينطلق منها تايلور في تبيان المقصود بالعلمانية وهو يرتكز على فكرة "ارتباط الدولة بالدين" وينظر إلى المجتمع الغربي بأنّه مجتمع علماني لأنّ الدولة لم تعد في رابطة رسمية بينها وبين الكنيسة أوالله وأصبح حضور الدين وغيابه مسألة شخصية وقد انتهى به المطاف إلى التمييز بين ثلاثة أنحاء من الفهم للعلمانية في ضوء فكرة ارتباط الدولة بالدين:
المعنى الأول: يتمثل في الحكم على عدم صلاحية الإيمان باعتباره ينتمي إلى العصور قبل الحداثة حيث كانت المجتمعات عبارة عن جماعة من المصلين وليس من المواطنين فالعلمانية هنا بمثابة وضع والفضاءات العمومية فيها تكون مفرغة من الله وكذلك الدوائر الاجتماعية المستقلة تكون مفرغة من الدين.
المعنى الثاني: يتجسد المعنى الثاني في عملية فصل الكنسية عن الدولة؛ وتكون فيه العلمانية عمومية فهي لا تمنع استمرار الحياة الدينية ولا تمنع المؤمن من الذهاب للكنيسة.
أمّا المعنى الثالث، فيمكننا القول فيه بأننا نعيش في زمن علماني حيث ينتقل بنا من مجتمع يكون فيه الإيمان بالله أمرا دون منازع إلى مجتمع يفهم الإيمان على أنه اختيارا من الاختيارات.
وكل المعاني الثلاثة للعلمانية تتضمن علاقة واضحة مع مسألة الدين بحيث يكون تارة ذلك الشي الذي "انسحب من فضاء العمومي" وطورا "يكون نمطا من الإيمان والممارسة في تراجع وعدم تراجع" وتارة أخرى يوصف على أنه "نوع معين من الإيمان أو الالتزام يتم الفحص عن شروطه في هذا العصر". وينصب اهتمام تايلور في المعنى الثالث من معاني العلمانية الذي يوضح فيه بأن المجتمعات الغربيه هي الوحيدة التي صار فيها الإيمان اختيارا خاصا وما ساقه تايلور من تقسيمات لمعنى العلمانية مهم جدا في فهمها وإماطة اللثام عنها فلا يفهم أنها تكون على شاكلة واحدة بل متعدده ليسهل النظر فيها وإن كانت لربما ذات هدف واحد وهو إبعاد الدين في مجال معين أو كافة المجالات.
ليمضي بعدها في التساؤل عن معنى الدين في عصر علماني؟ فتكون الإجابة عليه في كلام مطول يشرح فيه رأي تايلور عن معنى الدين والانزياح الذي مني به الدين في العصر العلماني حيث تحول المجتمع من "مجتمع كان من المستحيل فيه عمليا ألا يؤمن أحد بالله إلى مجتمع يكون الإيمان إمكانية إنسانية من بين إمكانيات أخرى". والدين عند تاليور عبارة عن "مكان ممتلئ؛ نحوه نحن نوجه أنفسنا وأخلاقنا" وإن كل ما من شأنه أن يساعدنا على "تحديد وجهة لحياتنا" هو دين أو بمثابة دين بحجة أنّه يشير إلى نوع من الحضور لنمط معين من الامتلاء وهنا يجدر بنا الوقوف على أمر مفاده أنه ليس كل ما يساعدنا في تحديد وجهة لحياتنا دين أو بمثابة دين كما يدعي تايلور فهنالك أشياء كانت ولا زالت تحدد وجهة للكثير منا في حياته لا يمكننا نعتها دينا من الأساس أو بمثابة دين. ولم يعد السؤال المطروح من وجهة نظر تاليور ما هو الدين؟ بل: ماذا صار يعني الدين بالنسبة إلينا نحن "الغرب" الذين نعيش في زمن علماني وهنا أيضا يطرح تايلور سؤالا آخر: هل يمكن للبشر اليوم أن يعترفوا بشيء يكون ما وراء أو يتعالى على حياتهم؟
وبما أنّ الكاتب قد طرح تساؤل تايلور: هل الإنسانية تغير قبلتها من جديد؟ فالجواب يكمن في الإنسانية الغربية وذلك كون حديثه منصب حول العلمانية عند الغرب وهو يصرح بأنّ "الإنسانية الحديثة - الإنسانية المكتفية بذاتها التي صارت لا تعترف بما هو روحي إلا بقدر ما ينبع من هويتها الخاصة ومن شخصها الإنساني" والحديث عن الإنسانية في عصر الحداثة يستلزم وقتا لا نجد أننا نملكه حاليا ومن أراد معرفة مفصلة لعله من الأفضل أن يراجع كتاب تايلور "عصر علماني" ليجد ضالته فيه ويشبع فضوله في المعرفة.
