ناصر الحارثي
في مقال منشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "الإسلام في عالم اليوم والغد"، مُحَاولة لإعادة طرح أسئلة لطالما تكرَّرت في الخطابات الإسلامية والسياسية، خاصة في وقت الأزمات التي تعصف ببلدان العالم الإسلامي بين الحين والآخر، وتتمثل هذه الأسئلة حول علاقة الإسلام بالعالم، وسبل النهضة بالأمة الإسلامية، وما أفضل الإستراتيجيات للتغيير والتقدم واستعادة هيبة الحضارة الإسلامية. ورغم أن العديد من الكتابات التي جاءت لاحقا مُنادية بإعادة التفكير في طبيعة هذه الأسئلة، أو إشكالية التعصب للإجابات الكلاسيكية كعبارة الحل في الإسلام، والعودة إلى الكتاب والسنة، إلا أنَّ المقال يأتي لطرح هذا الموضوع من أربع زوايا متباينة؛ هي: دور المثقف في هذه القضية، والتحديات التي تواجه الإسلام في هذا العصر، وأهمية العقل النقدي، وأهم الفرص المهدورة خلال القرن الماضي.
ويستخدم كاتب المقال مصطلح الإسلام للحديث عن القضايا المتعلقة بالخطاب الإسلامي والشعوب والأنظمة العربية، وإن غابت عنه دقة المصطلح وبنية الموضوع، إلا أنه يركز على نقاط معينة ومتباينة؛ حيث بدأ الحديث بأن مسؤولية المثقف هي تجنب حدية المواقف والتعابير العاطفية التي تحاول أن تجعل الإسلام في حكم المتهم أو المظلوم، وأن يسعى المثقف جاهدا لإيجاد حلول تسهم في النهوض بالأمة وتجنب ما أسماه بالانفلات الثقافي من خلال وضع عدد من الرؤى والتنظيرات البعيدة عن الواقع؛ فمسؤولية المثقف وضع الإستراتيجيات المستقبلية الواقعية، وليس كما حصل أيام حركات التحرر الوطني التي جعلتنا مفصولين عن الواقع المتغير والمتطور، ونعيش أهم أمجاد الماضي. والإشكالية برأي الكاتب ليست فشلنا في تحقيق طموحاتنا، بل في عدم تشخيصنا الحقيقي لأسباب فشل الثورات المتعاقبة؛ فالنقد في حقيقته مختلف عن الهدم ويسعى لمحاولة تجاوز ما لم يعد صالحا واستبداله بما هو أكثر ملاءمة لمتغيرات العصر، والفرق بين المشروع القومي العربي، والمشروع القومي الصهيوني، هو وجود إستراتيجية مدروسة في المشروع الصهيوني المدعوم من الغرب، كما تطرق لفكرة محمد إقبال المتعلقة بإشكالية الثابت والمتغير، وأنَّ تصوُّر المجتمع للحق يكمُن في اعتقاده بأنَّ الحق لا يُمكن أن يتراوح بين الثابت والمتغير، وهي إشكالية حقيقية لأنَّها تتحول إلى مبادئ ثابتة من القرآن؛ وبالتالي تتجه إلى الجمود؛ لذا نجد الكاتب يحاول أن يجعل إشكالية الإسلام في محورين؛ المحور الأول: غياب الإستراتيجية وضبابية النظرة المستقبلية، والإشكالية الثانية: غياب المرونة مع التغيير في الخطابات السياسية لدى الحركات النهضوية. وفي أثناء معالجته لهذه القضايا، يستند إلى تنظيريْن مُختلفين؛ أحدهما من داخل الإسلام، والثاني من خارجه. أما من خارج الأمة الإسلامية فهو رأي لويس غارديه مؤلف كتاب فلسفة الفكر الديني في الإسلام والمسيحية، وفيه إشادة واسعة بالإسلام وارتباطه بتطبيق شريعة الله، وانطلاقه من إرادة العيش المشترك، وهنا نرى أنَّ الكاتب لا يرى الإسلام نظاما سياسيا بل هو الأمة؛ فالحضارة الإسلامية تعايشت في عهد الخلافة مع أنظمة شبه ديمقراطية مدنية، تلتها حكومات استبدادية في العهد الأموي والعباسي، ثم حكومات أوليغارشية في العصر التركي والمغولي. أمَّا في العصر الحالي، فهناك أنظمة ملكية وبرلمانية وأخرى اشتراكية. وبالتالي، فإن الأمة الإسلامية تتعايش مع أي نظام وحكم قائم مهما كانت طبيعته ولها رؤيتها الخاصة المستمدة من التراث الإسلامي، ولكن أركون رد على غارديه وتكهناته المتفائلة جدا من أربع زوايا؛ هي: أن العرض الأسطوري الذي قدمه غارديه ما هو إلا تمثيل أسطوري لآمال المسلمين المستمدة من تاريخهم، وأنَّ الثقافة السائدة في العالم الإسلامي لا تستمد من كتب وتنظيرات المفكرين بل من خطابات حسن البنا وأنور الجندي ومصطفى محمود، والثورات الاشتراكية في العالم الإسلامي لن تتجاوز حدود الشعارات ولن تحل شيئا من مشاكل العالم العربي المعقدة، والمحور الرابع في رد أركون أن الإسلام الكلاسيكي الذي درسه المستشرقون هو نوع من التراث الذي يتقاطع مع واقع المسلمين اليوم، وهنا يدخل الكاتب إلى الحديث عن العقل النقدي الذي تحدث عنه أركون والذي سعى للتمييز بين تمظهرات الإسلام الثلاثة؛ وهي: إسلام أول يتمثل في الدين والتقوى، وإسلام ثانٍ وهو دين الأشكال، وإسلام ثالث وهو دين فردي، وهذه الأنماط الثلاثة التي تربط بين القوة والشكل والفرد تُشكل طبيعة المفهوم الاجتماعي للإسلام، وهذا النظام الاجتماعي ظل سائدا إلى يومنا هذا ولا يوجد مشروع فكري حتى الآن يمكن أن يخترق هذه المنظومة.
أما في المحور الرابع، وهو الفرص المهدورة في الحضارة الإسلامية خلال القرن الماضي، فحاولت الأمة الإسلامية النهوض مع إرادة اليابانيين، وتعرضت كلا الأمتين للغزو الأجنبي ولكن النتائج والتبعات كانت مختلفة تماما، ومن ثمَّ جاءت فرصة النهوض مع الحركات الاشتراكية وتزامن معها رغبة الصين في النهوض بقيادة ماوتسي تونج، واستطاعت الصين أن تحقق نجاحا في القوة العسكرية آنذاك، بينما سقطت الثورة الاشتراكية في الأنظمة العسكرية الاستبدادية، كما جاءت فرصة ثالثة مع سعي بلدان شرق أوروبا وأمريكا الجنوبية إلى تجاوز الماضي الدكتاتوري، وإنشاء أنظمة ديمقراطية بينما تحول الربيع العربي إلى مواجهات دموية وحروب أهلية وطائفية؛ لذا فإن ضياع ثلاثة فرص في أقل من قرنين لم يجعلنا نُعاني من جمود حضاري وحسب، بل تراجعت الأمة الإسلامية وتقهقرت إلى الخلف.
نجدُ الكاتب يُحاول في هذا المقال التطرُّق إلى عدد من إشكاليات الواقع العربي من زوايا مختلفة، دون وجود وحدة وبنية موضوعية واحدة سوى الحديث عن إشكاليات النهضة في العالم العربي؛ لذا أجد أنَّ الكاتب وقع في نفس الإشكالية وهي غياب الإستراتيجية. أضف إلى ذلك ضبابية المصطلحات وإدخال الدين بالسياسة تارة، وفصلهما تارة أخرى، كما أنه يدافع عن فكرتين مختلفتين في الآن ذاته، مما يجعل القارئ في إشكال حقيقي مع الهدف من الطرح والنتيجة التي يرغب في إيصالها للقارئ، ولكن يحسب للكاتب محاولته الجمع بين أكثر من قراءة حول ما تعانيه المجتمعات العربية والإسلامية من مشكلات فكرية ودينية وسياسية، وإشارته إلى أنَّ الرغبة في خلق حراك وتغيير في العالم الإسلامي أمر قد يكون في ظاهره مفيدا ويسهم في تحريك الماء الراكد، ولكن في حقيقة الأمر أنه إن لم يكن هذا الحراك والتغيير مدروسا فإن نتائجه قد تكون وخيمة، وتؤدي لتراجعنا للمرة الرابعة، وهذا ما لا طَاقة لأحد في الأمة العربية والإسلامية بتحمل نتائجه وتداعياته، خاصة وأنها عانت الكثير من الويلات على امتداد قرنين من الزمان.
